الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الإرهاب ومكافحته من نيوزيلندا إلى باغوز

الإرهاب ومكافحته من نيوزيلندا إلى باغوز

30.03.2019
بكر صدقي


القدس العربي
الخميس 28/3/2019
قدمت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أردرن درساً للعالم في مكافحة الإرهاب، فلم تبحث عن جينات مسببة لآفة الإرهاب عند جماعة بشرية معينة، ولا أمطرت حواضن شعبية مفترضة له بالقنابل أو الصواريخ أو البراميل المتفجرة كما يفعل نجوم "الحرب على الإرهاب" كالولايات المتحدة وروسيا ونظام بشار وإسرائيل وغيرهم. ولا حتى نكلت بالقاتل الذي ارتكب مجزرة المسجدين في مدينة كرايست تشيرتش، بل ألقي القبض عليه وسيحاكم محاكمة عادلة يستحقها. كذلك تم تعديل قانون حمل السلاح بما يلبي الاحتياجات الأمنية لما بعد المجزرة لمواجهة احتمالات تكررها. هذا إضافة إلى الأداء المتحضر في إظهار روح التعاطف والتضامن مع الضحايا والجالية المسلمة التي ينتمون إليها، سواء من قبل الحكومة أو المجتمع المدني في نيوزيلندا.
بالمقابل، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها الميدانيون (قسد) بـ"تحرير" آخر جيوب الدولة الإسلامية (داعش) في بلدة باغوز بتكاليف بشرية باهظة لما يسمى بـ"الحاضنة الشعبية" للمنظمة الإرهابية المذكورة، في تكرار لما حدث قبل ذلك في الرقة وغيرها من مناطق "الدولة الإسلامية" التي استهدفتها قنابل التحالف الدولي ضد الإرهاب.
ولا يعفي اختلاف الظروف بين هجوم نيوزيلندا وباغوز "محاربي الإرهاب" من مسؤولياتهم الإنسانية إزاء الضحايا المدنيين، بل ربما يضيف إليها مسؤوليات سياسية تتعلق بمستقبل سكان المنطقة وصيغ التعايش بين الهويات المختلفة التي ينتمون إليها. فإذا كانت "العدالة الانتقالية" ممراً إجبارياً لمستقبل مختلف في سوريا، لماذا لا تكون كذلك أيضاً بالنسبة للمناطق الجزئية التي لها ظروفها الخاصة، كحال مناطق "الدولة الإسلامية" التي تم تقويضها، أو إدلب أو عفرين وغيرها من المناطق التي تخضع لأطر وظروف خاصة؟ بكلمات أخرى، إلى أي مدى يمكن الوثوق بصحة الاتهامات الموجهة إلى أفراد بأنهم كانوا مقاتلين لدى داعش أو متعاطفين معه لمجرد كونهم عرباً سنة في مناطق كان يحتلها تنظيم داعش؟ أو اعتبار كل كردي في عفرين منتمياً إلى وحدات حماية الشعب أو متعاطفاً معها؟ فبمثل هذه الذرائع تتم ارتكابات متبادلة في مناطق "محررة" من "الإرهابيين". أم أن هذه الأسئلة نافلة في "ظروف الحرب" التي تبيح كل القبائح؟
إلى أي مدى يمكن الوثوق بصحة الاتهامات الموجهة إلى أفراد بأنهم كانوا مقاتلين لدى داعش أو متعاطفين معه لمجرد كونهم عرباً سنة في مناطق كان يحتلها تنظيم داعش؟ أو اعتبار كل كردي في عفرين منتمياً إلى وحدات حماية الشعب أو متعاطفاً معها؟
الواقع أن الفارق الأساسي بين الحدثين موضوع هذه المقالة، ليس كون الإرهاب "مسيحياً" أو أسترالياً (بالنظر إلى جنسية القاتل) أو "غربياً" في الحالة الأولى، و"إسلامياً" في الحالة الثانية، وليس أيضاً في هوية الضحايا، ولا في كون الأولى حادثة منفردة مقابل حالة الحرب في الثانية… بل هو في طريقة الاستجابة لتحدي الإرهاب في منطقتين مختلفتين. في الأولى تأخذ العدالة مجراها بإلقاء القبض على الإرهابي ومحاكمته، واتخاذ الإجراءات الأمنية وغير الأمنية المساعدة على تطويق الإرهاب وتهميشه. أما في الحالة الثانية فتنزع الصفة البشرية عمن يعتبر إرهابياً ثم يعامل بالإبادة والاستئصال حلاً وحيداً لآفة الإرهاب. وتشمل إجراءات الإبادة والاستئصال بيئات واسعة من السكان الموصوفين بحواضن اجتماعية للإرهاب. أو، في أحسن الأحوال، يتم التساهل مع "الخسائر الجانبية" في عمليات القصف بالقنابل حيثما تعلق الأمر بمجاميع من "الإرهابيين" يحتلون مناطق مأهولة بالسكان. هذه هي حال المناطق الخارجة عن سيطرة نظام دمشق الكيماوي، وقطاع غزة، ومناطق "الدولة الإسلامية" سابقاً، ومناطق سيطرة "وحدات حماية الشعب" سابقاً (عفرين).
الواقع أن شعار "الحرب على الإرهاب" الذي أطلقته الولايات المتحدة وتمكنت من تعميمه عالمياً، قد منح طيفاً واسعاً من حكومات الدول ذريعة لمحاربة كل من يعارضها بالكلمة أو السلاح. ففي نظر إسرائيل كل فلسطيني إرهابي، أو إرهابي محتمل في أحسن الأحوال، ولدى دوائر غربية فاعلة كل مسلم هو إرهابي محتمل، ولدى نظام بشار الكيماوي كل سوري لا يدين بالولاء للطغمة الحاكمة هو إرهابي، ولدى تركيا كل كردي هو إرهابي أو داعم له أو متعاطف معه، ولدى حكومة السيسي في مصر كل معارض هو إرهابي تعريفاً.
هذا الانفلاش لمفهوم الإرهاب هو أهم منبع لتوليد مزيد من الإرهابيين الحقيقيين ممن تضيق بهم سبل التعبير عن مظالمهم، فلا يجدون سبيلاً لتنفيسها سوى في عنف عدمي لا يستهدف أي تأثير سياسي بقدر ما يسعى نحو الثأر المحض. أما إذا "واتاه الحظ" ووجد ضالته "النضالية" في إطار تنظيمي وعقيدة إيديولوجية تسمو بمشاعر الثأر الضيقة في نفسه، فتحولها إلى قضية عامة، فسوف يتحول إلى مقاتل في سبيل "هدف سام" يبيح له الفظائع. هذه هي حال من انتموا إلى منظمة القاعدة أو "الدولة الإسلامية" من مختلف مناطق العالم وثقافاته.
لهذا السبب يدرك أركان "الحرب على الإرهاب" قبل غيرهم أن دولة داعش الإسلامية التي أعلن عن إنهائها لا بد أن تظهر في أشكال وأطر عمل جديدة لا يمكن القضاء عليها بالحرب الكلاسيكية كما جرت حين كان لتلك "الدولة" أرض محددة في العراق وسوريا. ما أسهل أن تظهر "الدولة" مجدداً في أي مدينة أوروبية على هيئة رجل يقود شاحنة يدهس بها المارة بلا تعيين، وهذه أبسط صور ظهور "الدولة" بالمقارنة مع ما تتيحه التكنولوجيا الحديثة من وسائل عنف لا يمكن حصرها.
كل المظلوميات التي لا تجد استجابات، لديها قابلية للتحول إلى إرهاب ما لم تعالج بوسائل سياسية. ولا شيء يمكن أن تعجز عنه السياسة إذا صفت النوايا. فهي فن إيجاد الحلول لمشكلات تبدو، للوهلة الأولى، غير قابلة للحل.
كاتب سوري