الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الإبادة الاجتماعية – البوكمال نموذجًا

الإبادة الاجتماعية – البوكمال نموذجًا

24.04.2019
ثائر الزعزوع


جيرون
الثلاثاء 23/4/2019
تشكلت مدينة البوكمال في أقصى الشرق السوري، قبل أكثر من مئة عام تقريبًا، من مهاجرين جاؤوا من مناطق عراقية مختلفة، على الأغلب، واستقروا في تلك البقعة الجغرافية، التي كانت مأهولة بأعداد قليلة من السكان، ويختلف المؤرخون في سبب تسميتها، علمًا أنها كانت تُعرف في عشرينيات القرن الماضي بالنحامة، ثم القشلة، نسبة إلى الثكنة الفرنسية التي كانت فيها. تعود أصول سكانها، كما قلت، إلى مناطق عراقية مختلفة، لذلك فقد احتفظ العديد من العائلات بأسماء تلك المناطق العراقية التي ينتسبون إليها: العاني، الراوي، الموصللي… وقد مرت المدينة بتغيرات كبيرة خلال مئة عام أو أزيد من عمرها، حيث وفد إليها كثيرون، وربما غادرها كثيرون، ويؤرخ المؤرخون أن البوكمال كانت أول مدينة رفعت علم الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، قبل عام تقريبًا من إعلان الجلاء الفرنسي بشكل كامل عن الأراضي السورية، كما كانت لاحقًا أول مدينة تطرد النظامَ بشكل كامل أواخر عام 2012، وتشكل مجلسًا محليًا، وشرطة محلية خاصة بها، طبعًا لم يستمر ذلك الوضع طويلًا، إذ عرفت جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حاليًا) طريقها إلى المدينة، وبدأت بالتمهيد لدخول تنظيم (داعش) الذي استولى بدوره على المدينة، صيف العام 2014 بمساندة من سلاح الجو التابع لنظام دمشق، ويستطيع أبناء مدينة البوكمال تقديم سرديات طويلة للمقاومة الشعبية التي واجهها تنظيم (داعش) الذي ما كان له أن يتمكن من دخول المدينة، لولا تلك المساندة الجوية.
طبعًا، أحوال المدينة الآن تغيّرت كثيرًا، بعد طرد تنظيم (داعش) منها، من قِبل قوات النظام والميليشيات الإيرانية الموالية لها، وقد ظهر قائد جيش القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني، وهو يصلي على مشارف مدينة البوكمال، في صورة لا تخلو من الاستفزاز، كما ظهرت الميليشيات الإيرانية وهي تجوب شوارع المدينة، وتستولي على ما تشاء من البيوت التي هُجّر ساكنوها منها وباتت خاوية. ويستطيع راصد مبتدئ أن يتابع حركة نزوح أهالي البوكمال في اتجاه مناطق مختلفة، وقد تناقلت وكالات الأنباء العالمية صور ذلك النزوح والتهجير القسري، واعتبرته بداية لكارثة إنسانية، وهو كذلك فعلًا، وعلى الرغم من طرد تنظيم (داعش) من المدينة، وعودة سيطرة قوات النظام عليها، فإن سكانها لا يستطيعون العودة إليها، حتى أولئك الذين ليس لديهم موقف من الثورة أو النظام: البشر العاديين المسالمين، وما زالوا هائمين على وجوههم يتنقلون من مكان إلى مكان دون مستقر، إذ تشترط القوات التي تسيطر على المدينة حصول أبناء المدينة الراغبين في العودة على كفالة من أحد عملائهم، أولئك العملاء الذين تحولوا من عناصر شرطة في تنظيم (داعش) إلى مرتزقة لدى الميليشيات الإيرانية. افتتحت منذ أشهر مدرستان لتعليم اللغة الفارسية، طبعًا المدرستان لا تعلمان اللغة، كما قد يوحي الخبر الذي تناقلته بعض المواقع الإخبارية، لكنهما تعملان على نشر التشيّع بين الناس، وهذه حقيقة ينبغي ألا نغفلها، وخاصة في ظل استسلام نظام دمشق كليًا لهذه الرغبة الإيرانية بل ترحيبه بها.
واقع المدينة الآن يشير إلى أن تغييرًا ديموغرافيًا حادًا طرأ على بنيتها، وهو مستمر، لكن اللافت، والذي أستطيع تأكيده بسهولة، أن ثمة إبادة كلية لبعض العائلات الصغيرة، إبادة وجود وإلغاء انتماء، العائلة التي أنتمي إليها، ليست من العائلات الكبيرة في المدينة، على سبيل المثال، ولم يبقَ أي من أفرادها في المدينة، البيوت دُمّرت تمامًا، أو حلّ فيها مستوطنون جدد، ربما من جنسيات غريبة، ولم يبق سوى قبور من ماتوا، حتى تلك القبور قد يكون التخريب طالها وضاعت ملامحها. هناك عائلات كثيرة أصيبت بداء الإبادة هذا، ليس في البوكمال وحدها طبعًا، ولكن في مناطق مختلفة ومدن كثيرة من سورية، سواء في غوطة دمشق، أم في بعض مناطق الريف الحمصي والحلبي، وإذا ما استمرت الحال على ما هي عليه، من حركات نزوح و تهجير، وقد يستمر ذلك فترات إضافية؛ فسوف نكون -من دون أدنى شك- أمام شكل جديد من أشكال سورية، شكل لم يكن متوقعًا على الإطلاق، خاصة أن هناك أخبارًا بدأت تتردد -وهي ليست مؤكدة حتى الآن- أن واشنطن قد توعز باجتثاث الميليشيات الإيرانية من مناطق شرق الفرات، بعد أن صنفت مؤخرًا الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية. وفي حالة وقوع اقتتال جديد، وهو ليس مستبعدًا على الإطلاق، فما الضامن أن المهجرين من تلك المناطق المبادة قد يعودون إليها، وقد استحالت خرابًا بفعل كل ما سبق وما سوف يأتي من تدمير.
إبادة مجتمع سوري كان قائمًا طوال قرون، وخلق مجتمع جديد، مركب من مجتمعات جديدة مفككة، لا روابط بينها سوى أنها وجدت هنا بفعل الظروف القسرية التي تعرضت لها، هو شكل من أشكال تفكيك الهوية السورية، التي، مع الأسف، لم تبنَ أصلًا بشكل صحيح، ثم خلق هويات بديلة، عشوائية، طارئة، سوف تخضع بدورها للتغيير، كلما تغيرت الظروف.