الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الأمعاء الخالية... صرخة في وجه الضمائر الخاوية

الأمعاء الخالية... صرخة في وجه الضمائر الخاوية

15.07.2019
بسام يوسف


سوريا تي في
الاحد 14/7/2019
إضراب السوري "بريتا حاجي حسن" المفتوح عن الطعام، فجّر احتجاجاً على الوحشية المنفلتة التي تطال المدنيين في إدلب وغيرها من مناطق سوريا، وهو الإضراب الذي بدأه بتاريخ 10/6/2019، ولا يزال مستمراً فيه. وهو الإضراب الذي راح يتسع حتى زاد عدد المضربين عن خمسين شخصاً. إنه صيغة مبتكرة جديدة من صيغ وأشكال نضال السوريين ضد هذه المقتلة الرهيبة التي تستمر باجتياحهم، منذ أن أطلقوا صرختهم في وجه سلطة فاشية دموية، كانت قد أحكمت قبضتها على مصائرهم منذ عقود طويلة.
إنّ أول ما سيتبادر إلى أذهان من يسمعون بخبر الإضراب، هو: الجدوى؛ إذ أن اليأس قد استبد بالسوريين الذين حاولوا فعل ما يشبه المستحيل؛ لكي يسمعوا هذا العالم الأصم صوت ألمهم.
السوريون الذين كلما ازداد ألمهم وموتهم، ازدادت ثرثرة هذا العالم، وازداد صممه. ثم من ألم إلى موت، ومن موت إلى موت صار الأمل يخبو، وصارت النفوس تنزلق من إحباط إلى إحباط. فهل عرفت البشرية موتاً يشبه هذا الموت، وهل تعرفت البشرية من قبل إلى موت يماثل هذا الموت المدفوع بهذه الوحشية كلها، والمردوم بكل هذا التجاهل والتواطؤ والصمت مع هذه الصفاقة الصفيقة والعلنية الفضيحة. إن موت السوريين الذين يموتون بهذا العرض الحي المتواصل على الهواء مباشرة، لم يزحزح سلطات العالم عن لهوها وشرهها، ولم يتمكن من دفعها إلى مسؤولياتها المفترضة.
لعل العالم يريد من السوريين أن يقتنعوا بلا جدوى ما يفعلونه، وأن يرضخوا لما سيفرض عليهم في مرحلة قادمة، وأن يستسلموا له؛ ما دام أن أحداً في هذا العالم لا يجهل حقيقة النظام السوري، وأن لا وجود لأحد في هذا العالم لا يعرف حقيقة ما يفعله التدخل الروسي في سوريا، ولا وجود لأحد يجهل حقيقة الميليشيات الطائفية التي قدمت بدعم وتوجيه من إيران. ومع كل هذا، فإن أحداً لم يفعل ما يوقف هذا القتل اليومي، أو يعيقه، وإن أحداً لم يشجب صراحة وفعلاً هذا الاستهداف المتعمد لكل مقومات الحياة، التي هي بحدها الأدنى أصلاً، من مشافٍ ومدارس وأسواق بيع ومنازل.
إنها المعادلة التي دققها العالم وحرسها، ووضع السوريين أمامها، إنها معادلة الموت المجاني، الموت الذي لا يتجاوز التعاطف معه حدود الحد الأدنى من الاهتمام الإعلامي، الموت الذي تحول إلى سلعة، يتاجر بها صاحب كل يد خفيفة. ومع هذا، وعلى الرغم منه، فإن السوريين يواصلون اجتراح وجوه جديدة لنضالهم، بعناد يكاد يكون انتحاراً، ويواصلون تصميمهم على حث هذا الضمير النائم؛ كي يصحو من سباته.
لن يهدأ السوريون حتى ينالوا حريتهم، هذه حقيقة بسيطة لا تحتاج إلى تأكيد أو تعليل؛ لأن ما خسروه في طريق جلجلتهم يكفي زاداً لأرواحهم العطشى أربعين تيهاً ويزيد، ولن يكفوا عن اجتراح معجزاتهم الواحدة بعد الأخرى؛ لأنها المعادلة التي فرضتها تسع سنوات من مأساة قلما عرفتها البشرية طوال تاريخها القديم والحديث.
لكن يُتم الثورة هو ما جددت تأكيده مرة أخرى معركة الإضراب الأخيرة، هذه التي لا تزال مستمرة في وقتها ونموها. وقد أكدت مرة أخرى هشاشة القيادات التي ركبت الثورة، والتي اصطُنعت فيها. وبمعنى آخر: لقد أكد هذا الإضراب المستمر غياب القيادات التي تليق بهكذا ثورة؛ لأن هذا الشعب الذي لم يهدأ في وجه أبشع قمع وأكبر مجزرة معلنة طوال تسع سنوات، لم يتصدر واجهته إلا من تاجروا أو تخاذلوا أو فشلوا.
مرة أخرى، تبرز إلى الواجهة ضرورة إيجاد آليات عمل جديدة، وضرورة مأسسة هذا النضال الذي يستمر ويدوم. نعم، نحن بحاجة إلى مؤسسة سورية مختصة، تنقل التضحيات السورية من حقل الفردي المشتت إلى حقل الفعالية والجدوى عبر الجماعية والتنظيم.
إنها مسؤولية المثقفين السوريين ومفكريه وأحزابه وكل منظمات المجتمع المدني فيه، إنها مسؤوليتنا جميعاً أمام هذه المعاناة الهائلة لشعبنا في بقاع الأرض كلها، وأمام هذه الاستباحة التي يمارسها قتلة بلا أي أخلاق، وبلا أي ضمير، وبلا أي رادع، وأمام هذا الصمت الدولي المشين.
المفارقة الفاجعة أن ما من ثورة قدمت لقادتها من عناصر القوة ما قدمته الثورة السورية، وما من قيادة أهدرت هذه العناصر كما فعلت قيادات هذه الثورة، هذه القيادات التي لا تثق بشعبها ولا بنفسها، ولا ترى قوتها إلا في تبعيتها لأطراف أخرى، فكيف يمكن لقيادات كهذه أن تنصر ثورة؟
اليوم، وأمام هذه الوقائع الصادمة، يجب أن نتخلى عن فكرة انتظار الآخرين، وأن نتخلى عن انتظار ما سوف يتمخض عن واجهات هذه الثورة التي لم تقدم سوى الفشل والخيبات، وأن يتقدم الشباب السوريون في الداخل والشتات لصياغة معادلات جديدة في معركة سعي السوريين إلى حريتهم. وسعيهم إلى بناء وطنهم الذي يتسع لكل السوريين في ظل مواطنة عادلة ومتساوية.
إنها المهمة الأشد إلحاحاً اليوم، وهي مهمة ممكنة رغماً عن كل اليأس الذي تحاول جهات كثيرة جر السوريين إليه. ورغماً عن كل البشاعة في قهر السوريين وفي إرغامهم على القبول بما لا يريدون، فما السكوت عن مناظر اعتقال السوريين في لبنان وإعادتهم القسرية إلى سورية للقتال دفاعاً عن العصابة التي تحكم سوريا إلا عار آخر يضاف إلى سجل التعاطي الدولي مع المأساة السورية، وما السكوت عن عشرات البيوت المهدمة فوق رؤوس ساكنيها في إدلب وريف حماة ومناطق أخرى إلا فضيحة أخرى تضاف إلى فضائح الضمير العالمي في الألفية الثالثة للبشرية.