الرئيسة \  تقارير  \  الأسوأ لم يأت بعد: عندما لا يصمد المركز

الأسوأ لم يأت بعد: عندما لا يصمد المركز

02.08.2022
ريتشارد فولك


ترجمة: علاء الدين أبو زينة
ريتشارد فولك* – (كاونتربنش) 15/7/2022
الغد الاردنية
الاثنين 1/8/2022
ما مِن أبيات شعرية يتردد صداها في عصرنا الحاضر أكثر من الأبيات المشهورة من قصيدة ويليام بتلر ييتس الشهيرة “المجيء الثاني”:
الأخيار يعوزهم إيمان، والأشرارُ يضجون بالحماسة العاطفية”.
وهذا صحيح بشكل خاص هنا في الولايات المتحدة، كما كان الحال مع رعاية ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى لصعود النازية وصوتها الشيطاني، أدولف هتلر -ذلك الخارجي البارع الذي تمكن من الزحف على الجبل صعودًا إلى قمته. لكن المحنة المعيقة التي تُلم بالولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين هي يمين متطرف نشط ومسلح، ومركزٌ سياسي سلبي فاتر، وهو تطور ينعيه الليبراليون الذين يبيعون أرواحهم منذ فترة طويلة قبل الانفصال عن أرصدتهم -كل ذلك من أجل مقعد ليس له حق التصويت على مختلف الموائد غير الليبرالية للسلطة. ويعمل هذا الافتقار إلى العاطفة الإنسانية في الوسط السياسي كمكمل معزز لقوى التغريب العنيفة التي تنتظر في مختلف أنحاء البلاد أوامر الشروع في المسير، كما نبأت غزوة التمرد والهجوم على الكابيتول هيل في 6 كانون الثاني (يناير).
معاً، تشير هذه الأنماط المتناقضة من “المواطنة” إلى موت الديمقراطية الدستورية بالطريقة التي عملت بها، مع فترات صعود وهبوط تشوبها العبودية، والإبادة الجماعية، والأبوية عند الولادة -في الواقع منذ تأسيس الجمهورية في العام 1787 باعتبارها “اتحادًا أكثر كمالاً”. والآن في العام 2022، ثمة بديل فاشي يتمثل في تقمص مكانة مؤسسية وأيديولوجية وشعبوية بدعم نشط من العديد من أعضاء الأوليغارشية الأميركية التي تموِّل ليلاً ما تنكره عندما تشرق الشمس (مذكِّرة مرة أخرى بسلوك الصناعيين الألمان الذين اعتقدوا أن هتلر هو وسيلتهم، بينما تبين أن الحرب الأخرى تحوم في الجوار).
هذه المحنة السياسية المعاصرة منهجية، ولا تتعلق فقط بهذه الحكاية المحزنة عن الانحدار الأخلاقي والاقتصادي والسياسي الأميركي، المخفيّ مؤقتًا عن الوعي العام بفورة معربِدة من الإنفاق العسكري المفرط الذي استمر لعقود، ووسائل الإعلام المتواطئة مع الشركات، والمآثر المشتِّتة للانتباه في الخارج، وقطاع خاص جشع ينمو وينتفخ على مبيعات الأسلحة وهيكل الضرائب التراجعي، ونهب البنتاغون، ونظامه الذي يحركه الربح. وربما يكون الأكثر كشفاً، وبطريقة سلبية، هو الإخفاق في الانتباه إلى الفشل الجيوسياسي أو الاعتداءات المحلية المجللة بالقداسة (إطلاق النار الجماعي في المدارس والأماكن الأخرى بأسلحة تم الحصول عليها بشكل قانوني، ومناسِبة فقط للقتال العسكري المنظم). لقد حان الوقت لإقامة الصلة بين عدم القدرة على إطلاق أي تحدٍ جديد لاستبداد التعديل الثاني كما فسره الاتحاد القومي للأسلحة بالتعاون مع الكونغرس والمحكمة العليا، مما أدى إلى تدجين الكثير من الناس وإسلامهم إلى إحساس كئيب باليأس الأخرس.
وحتى قبل أن تكتسب هذه المؤسسات المقدسة نفوذها وميزتها الترامبية، فقد أحجمت عن بناء الحقوق كما لو أنها على دراية بالتصدعات المجتمعية والبيئية العنيفة التي تمزق جذور الحزبين. وليس التعفن الأخلاقي من عمل المعتلين اجتماعيًا بيننا بقدر ما هو نتيجة لدينامية بلوتوقراطية لدى الحزبين، يسيطر عليها الكفار وأتباعهم البيروقراطيون الذين إما أنهم يحبون الطريقة التي تعمل بها الأمور، أو يعجزون عن استثمار أي فرصة لسن تغيير خيِّر.
تتجلى أنماط السكون نفسها هذه بين نخب الوسط، من الذين تلقوا تعليمهم في أكثر الجامعات احترامًا. ربما يكونون الأكثر ذكاءً، لكنهم بالتأكيد ليسوا الأكثر خيرية. ثمة رفض للتعلم من فيتنام؛ حيث أدت الهيمنة العسكرية، والتدمير الواسع لبلد بعيد، والكثير من إراقة الدماء، إلى هزيمة سياسية كان ينبغي أن تحفز بعض التعلُّم عن حدود القوة العسكرية في مواجهة الانهيار الاستعماري. ولكن، بدلاً من التعلم من الفشل الناجم عن تغيير التوازن السياسي في فترة ما بعد الاستعمار في بلدان الجنوب العالمي، انتحب خبراء السياسة الخارجية المعينون بشأن “متلازمة فيتنام” التي يُزعم أنها أعاقت اللجوء البراغماتي إلى استخدام الأدوات العسكرية للنهوض بمصالح الولايات المتحدة القومية والاستراتيجية، بسبب خوف من تكرار فيتنام.
كان جورج هـ. بوش هو الذي ابتهج بهزيمة عراق صدام حسين في حرب الصحراء التي خاضها ضد العراق في العام 1991، ليس لأنها استعادت السيادة الكويتية في المقام الأول، وإنما بسبب الثقة المستعادة بأن الولايات المتحدة يمكن أن تربح الحروب التي تختارها بتكلفة مقبولة. وعلى حد تعبيره: “بعون الله، تخلصنا من متلازمة فيتنام مرة وإلى الأبد”. (آذار/ مارس 1991).
بلغة أوضح، تمكنت القوة العسكرية الأميركية من هزيمة عدوها العراقي بكفاءة من دون فقدان الكثير من الضحايا، وبذلك يمكنها إخبار الشعوب بأنها أصبحت حرة مرة أخرى في الاعتماد على تهديداتها وأسلحتها كأداة سياسية جيوسياسية حاسمة لشق طريقها في العالم. ولكن هل كان الأمر ذلك؟ إذا فُهمت الأمور بشكل أفضل، فإن حرب العراق الأولى في العام 1991 كانت مواجهة قاسية في ساحة معركة بين قوى عسكرية غير متكافئة. وكما حدث في السابق، انتصر الجانب الأقوى هذه المرة بسرعة ومن دون الكثير من أكياس الجثث لتنبيه الأميركيين إلى تكاليف حرب قربانية لا علاقة لها بأمن الوطن. وكانت الدروس المستفادة من فيتنام لمؤسسة السياسة الخارجية هي أقصى استبدال ممكن للقوات بالآلات، وتبني تكتيكات تقصِّر أمد المرحلة العسكرية من المساعي السياسية المصممة لإلغاء أشكال تقرير المصير التي بدا أنها تتعارض مع التصميم الأميركي بعد الحرب الباردة على إدارة العالم لخدمة مصالح أعلى واحد في المائة.
لم تكن هذه الدروس بالتأكيد هي ما كان ينبغي تعلمه من عقد من الجهود الفاشلة وباهظة التكلفة في فيتنام. كان الدرس الرئيسي الذي ينبغي تعلمه من فيتنام هو أن التعبئة السياسية لشعب من الجنوب العالمي خلف النضال من أجل تقرير المصير الوطني يمكنه عادةً تحييد، وفي كثير من الأحيان، التغلب على هوامش كبيرة من التفوق العسكري لقوة خارجية، خاصة إذا كانت آتية من الغرب. وقد أدى الرفض العنيد لدى السياسيين والمستشارين الأكثر تمتعاً بالثقة إلى جانبهم للانتباه إلى هذا الدرس إلى حدوث الكوارث التي صاحبت مغامرات تغيير النظام، وبناء الدولة في حرب العراق في العام 2003، وأفغانستان (2001-2021)، وليبيا (2011)، وغيرها من الإخفاقات الأقل وضوحًا. وبغض النظر عن عدد مهمات البحث والتدمير التي تقوم بتنفيذها الطائرات من دون طيار، أو حملات “الصدمة والرعب” التي تُشن بسبب تأثيراتها الصادمة المذهلة، فإن النتيجة النهائية تشبه فيتنام أكثر مما تشبه العراق بعد حرب العام 1991.
ليس هناك حتى الآن أي تعلُّم واضح ذي صلة يمكن تمييزه بأي بطريقة ذات معنى، مثل إجراء تخفيضات كبيرة في الميزانية العسكرية واستخدام الأموال العامة بشكل أكثر حكمة وإنتاجية في الداخل والخارج. إن السياسة الخارجية التي ينتهجها كلا الحزبين، والتي تتجلى مرة أخرى في رد الفعل على حرب أوكرانيا، تحبس البلاد في دينامية مكلفة ومطولة من الفشل والإحباط، مقنَّعة إلى حد ما بالخداع الخطير حول الطبيعة الحقيقية للمهمة الاستراتيجية. بدلاً من التدخل وتغيير النظام، فإن التسويغ الداخلي المهيمن في الشأن الأوكراني لتصعيد التوترات، وإطالة أمد الحرب التي تدمر بلدًا بعيدًا وتتسبب بخسائر مأساوية في الأرواح، وفقدان الأطراف، وتدمير منازل الكثير من شعبه، هو تحقيق انتصار جيوسياسي، أي إلحاق الهزيمة بروسيا وترتيب تكاليف باهظة عليها، وتحذير الصين بشدة من أنها إذا تجرأت على تحدي الوضع الراهن في منطقتها، فيمكنها أن تتوقع أن تواجه النوع نفسه من الاستجابة المدمرة التي تواجهها روسيا.
منذ زمن طويل، كان يجب على أبطال الإنسانية أن يقلقوا بشأن “متلازمة العسكرة” وأن يكونوا شاكرين لـ”متلازمة فيتنام”، التي كان يمكن أن تؤدي إلى اعتناق استراتيجية للوقاية من الحرب بدلاً من الإصرار على بناء القدرات العالمية التي تمكِّن القيام برد فعل عسكري على أعمال الآخرين غير المرغوب فيها. وقد بدت الدبلوماسية الأوكرانية قبل العام 2022 التي مارسها حلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة مصممة، بدلاً من السعي إلى تحقيق نتيجة تتجنب الحرب، على إحداث حرب تتداخل بشكل خطير مع نظام جيوسياسي أحادي القطب غير مستقر ولا تحبه معظم دول الجنوب، إضافة إلى الصين وروسيا.
أما هنا في الوطن، مع ثقافة السلاح الراسخة، والتشرد، والتعامل القاسي مع طالبي اللجوء على الحدود المكسيكية، ما يزال المرض الجهازي الكامن غير مشخص إلى حد كبير، وغير معالَج على الإطلاق -بالتحديد، وجود قيادة عرجاء فقيرة الخيال، والتي هي سامة بشكل سلبي وفاشية بوضوح في المجال المحلي، وغير مسؤولة جيوسياسيًا ومعاملاتياً عندما تغامر في الخارج من أجل “العلاقات الخاصة”، أو تصر على أن الأمن العالمي في أي مكان على هذا الكوكب هو مصدر قلق لمراكز الفكر في واشنطن، وجماعات الضغط، وبيروقراطيي السياسة الخارجية. وليس من المستغرب في خضم هذا الارتباك، أن يبدو مقدراً لأولئك الذين لديهم الطاقة والعاطفة والإثارة إلى جانبهم أن يتحكموا بالمستقبل، ما لم تندفع موجة من الطاقة التقدمية بطريقة غامضة، وتقوم بتمكين حركة اجتماعية جديدة مدفوعة بالنضالات نحو خلق عقلانية أخلاقية، حيوية، إيكولوجية وسياسية.
ليس هذا الانجراف نحو الفاشية هو السيناريو الوحيد الذي يمكن تصوره لمستقبل أميركي خال تماماً من اليقين. ثمة أيضًا تقييم ييتس الذي قدمه قبل وقت طويل من ظهور الأزمة العالمية الحالية، ولا ينبغي أن نتفاجأ من حقيقة أن الشعراء يرون المستقبل أبعد من معلمي السياسة الخارجية والسياسيين الذين يظلون يركزون على الدورات الانتخابية أو دورات الأداء الأخرى -حتى في الأوتوقراطيات:
ثمة الأشياء تتداعى؛ المركز لا يستطيع الصمود؛
ثمة الفوضى فقط، التي أُطلِقت على العالم”.
وهناك تقييم باربرا ف. والتر الناتج عن بحث مشغول بعناية بأن الولايات المتحدة تنجرف نحو حرب أهلية ثانية -وليس مجرد تكملة فاشية للديمقراطية الجمهورية. (انظر والتر، كيف تبدأ الحروب الأهلية وكيف يمكن وقفها، 2022). وهو تقييم أكثر تفاؤلاً، نسبيًا، على الرغم من فشله في وضع سياق للتحدي السياسي في علاقته بالضرر المنهجي العالمي الذي تُلحقه عولمة اقتصادية تديرها الليبرالية الجديدة، وجائحة كوفيد مقلقة مقيمة، وحالة كوكبية عامة من التحول الحراري البيئي.
إنني أجد احتمال نشوب حرب أهلية أقل إحباطًا من الانجراف المتواصل نحو الفاشية أو عذابات الفوضى. فالحروب الأهلية تنتهي، ويمكن في كثير من الأحيان تجنب اندلاعها، وتكون للفائزين فيها مصلحة في استعادة الحياة الطبيعية، على افتراض أن الجانب الأكثر إنسانية هو الذي يسود، وهو ما قد يبدو في ظل الظروف الحالية تصوراً يوتوبياً. في الوقت الحالي، فقط احترموا القانون الدولي، واعتنقوا نظرة جيوسياسية مسؤولة، وأمماً متحدة تتمتع بصلاحية أكبر لتحقيق مبادئها وأغراضها (المادتين 1 و2)، وحيث يمكن لنشاط عبر وطني منخرط أخلاقياً/ وروحياً، أن يغير وجهة المد الذي يجتاح الإنسانية الآن، نحو السلام والعدالة وبقاء الأنواع وتعايش بيئي أكثر تناغماً.
إن المعجزات تحدث! والآن أكثر من أي وقت مضى، سيكون النضال -وليس الاستسلام- هو الحتمية الوحيدة التي تستحق الانتباه.
 
*ريتشارد فولك Richard Falk: أستاذ ألبيرت جي. ميلبانك للقانون الدولي بجامعة برينستون، وأستاذ كرسي القانون العالمي بجامعة الملكة ماري بلندن، وباحث مشارك في مركز أورفاليا للدراسات العالمية بجامعة كاليفورنيا.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Worst is Yet to Come: When the Center Does Not Hold