الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ارحل يقولها الدكتاتور لشعبه في حلب

ارحل يقولها الدكتاتور لشعبه في حلب

19.12.2016
صالح زياد


الوطن السعودية
الاحد 18/12/2016
الدكتاتور لا يشعر بالأمن إلا حين يقترف القتل والقمع باستمرار، وهو لا يستطيع أن يمارس القتل والنكال المستمر إلا في غياب كامل لديه للضمير الوطني والإنساني
في مقطع متداول، تصرخ عجوز سورية، ومن ورائها أنقاض بيتها ذي الطلاء المقشَّر، بصوت شاحب: "يا خاين.. يا خاين... خنت أهلك وشعبك. يا خاين بعت وطنّا...الخ"!
ليس أكثر ترداداً في لغة الدكتاتور من الإخلاص للوطن، والتجريم للخيانة. وليس أكثر ترداداً في لغة زبانيته وأزلامه من التأكيد على إخلاصه لوطنه، وصدقه مع شعبه.
وهذا صحيح بالتأكيد، لكن بإحلال شخص الدكتاتور محل الوطن، وغرسه في مكان الشعب؛ فالوطن "هو" وهو الوطن، والشعب "هو" وهو الشعب.
والنتيجة هي إلغاء الوطن، ومحو الشعب لصالح الدكتاتور الحاكم، الذي لا يغدو للوطن معنى سواه، ولا للشعب وجود غيره.
لا أحد يشبه الدكتاتور إلا نفسه، ولذلك فإن الدكتاتور حين يتشبه بشعبه يكف عن أن يكون "أناه" و"ذاته" وحين يتشبه الشعب بدكتاتوره فإنه –أيضاً- يُفْقِده "أناه" و"ذاته". فالوجهان معاً دلالة انتهاك لذات لا تشبه غيرها.
الشبه الوحيد الذي يلوح في الدكتاتور، هو الدكتاتورية نفسها: الشخصية المتألِّهة المتشيطنة، شخصيةٌ فوق البشر والقوانين والمؤسسات، وخارج المبادئ والقيم والأخلاق، وخارج المعنى الإنساني بمجمله.
هنا نعثر على نسخ متشابهة: جوزيف ستالين، أدولف هتلر، بول بوت, نيكولاي تشاوشيسكو، كيم يونغ، معمر القذافي، بشار الأسد... وغيرهم.
وللأسف فإن الطغاة وأنصافهم كثيرون في الذاكرة قديماً وحديثاً، ولكن الخيِّرين قلَّة قليلة: هل لأن التاريخ أكثر حفاوة بالأشرار؟! أم لأن الذاكرة أكثر شعوراً بوجودهم وتذكُّراً لهم؟! أم هو الواقع البشري الذي يطغى فيه الشر ويستشري؟!
الدكتاتور شخصية متطرفة في فرديتها وأنانيتها، وعلى رغم ذلك فإنه يحكم باسم معنى أو أكثر من المعاني الجمعية: قبَلي، وطني، قومي، اشتراكي، تقدمي، ديني، ثوري... الخ.
كل دكتاتور هو بذاته حائط صدٍّ ضد مؤامرات أجنبية، وأمام عدوان على الوطن والمقدسات، وضد تفكك الوطن وانهياره.
الدكتاتور "ضرورة" فمن دونه يحل الخراب، ويفتك اللصوص بالوطن، وتفسُد الأخلاق، ويُنْتَهَك الشرف...!
ولذلك فإنه قبضة حديدية قامعة، لا تتراخى ولا تغفل، وشهية مفتوحة للسحق والسحل والتركيع.
ومع ذلك فهو لا يخطئ، فخطأ الدكتاتور دائماً هو أن يفعل أقل مما يجب من التنكيل والبطش.
ألم نقل إنه ضرورة؟! فما معنى أن يكون ضرورة ثم يقال إنه يظلم أو يعتدي أو يكذب أو يجبن؟!
أن يكون ضرورة يعني أن يستحيل إلى مشروعية مطلقة، فهو معيار الصواب والقيمة، وميزان الحق والعدالة!
وربما لا يتعرَّف الدكتاتور بصفة أكثر من تعرُّفه بصفة شعبه؛ في ما يفرضه الدكتاتور من صفات على شعبه، وفي إنتاج الشعب لطغاته وجلاديه.
يصف أرسطو "الدكتاتور" بأنه "سيد يعامل رعاياه معاملة العبيد". وهذه صفة نَعْرِف بها الشعب من دكتاتوره، مثلما نعْرف الدكتاتور من شعبه في قولة عبدالرحمن الكواكبي: "المستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى: "كما تكونوا يولّ عليكم".
الشعب الذي يُعرِّف بالكينونة التي يكون عليها دكتاتوره، ويَتَعرَّف به، يُعرِّفه –أيضاً- بالقانون تعريفاً بالسلب لا بالإيجاب؛ فالدكتاتور حاكم بلا مشروعية قانونية بأي معنى.
إنه، إذْ يصل إلى الحكم بالمؤامرات أو الاغتيالات، أو القهر، وفي أحسن الأحوال باستغلال ظروف غير طبيعية، تصبح إرادته هي القانون الذي يحْكُم؛ فلا يخضع للمساءلة، ولا للمحاسبة، ولا للرقابة من أي نوع.
هكذا يصبح غياب القانون دلالة مباشرة على الطغيان، وهذا ما نقرأه لدى جون لوك الذي قال: "يبدأ الطغيان عندما تنتهي سلطة القانون، وتُنتَهَك لإلحاق الأذى بالآخرين".
وأظن أن أحداً لم تجتمع له من صور التعبير في دقة وتهكُّم وشعور بالألم الممتزج بالغيظ تجاه الدكتاتور، ما اجتمع لنزار قباني في إحدى أكثر القصائد إلحاحاً بمأساويتها على الذاكرة؛ لأنها تمثِّل-أكثر ما تمثِّل- مأساة سورية، كما تتجلى الآن، ومنها:
"في حارتنا ثمة ديك.. عدواني فاشستي نازي الأفكار
سرق السُّلطة بالدبابة
ألقى القبض على الحرية والأحرار
ألغى وطناً.. ألغى شعباً.. ألغى لغةً.. ألغى أحداث التاريخ
ألغى ميلاد الأطفال.. وألغى أسماء الأزهار
في حارتنا ديك كل مواهبه
أن يطلق نار مسدسه الحربي على رأس الكلمات".
والقصيدة –هكذا- لا تصور –فحسب- جناية الدكتاتور على الشعب والوطن، بإلغائهما، بل تصور الجناية على الحياة في أصلها، التي يرمز لها الأطفال والتاريخ، وعلى الجمال والحرية، وعلى الأفكار والأخلاق... إنه كارثة كونية وإنسانية بأوسع دلالة.
إنه كارثة على الشجر والحجر، مثلما هو كارثة على الإنسان. والذين ينظرون إلى مدن الشام العريقة التي حوَّلتها البراميل المتفجرة والقنابل والمدفعية إلى أكوام من الدمار، يدركون أن كارثة القتل والتهجير للبشر، ليست على فجيعتها، أدمى للقلب من المناظر المصورة لأنقاض حمص أو حلب!
لماذا يلح الدكتاتور عبر وسائله الإيديولوجية على صدقه وإخلاصه وحكمته وشجاعته؟!
الجواب، ببساطة، لأنه يغطِّي بذلك على حقيقته.
الدكتاتور لا يشعر بالأمن إلا حين يقترف القتل والقمع باستمرار، وهو لا يستطيع أن يمارس القتل والنكال المستمر إلا في غياب كامل لديه للضمير الوطني والإنساني.
حين قبض الثوار على معمر القذافي، كان مختبئاً في أنبوب خرساني لصرف المياه تحت الشارع، ومعظم حراسه الشخصيين جنود مرتزقة من مالي، وبدا يصرخ على الثوار: "حرام عليكم.. حرام عليكم"!. أما الناطق باسم المجلس الوطني الانتقالي حينذاك، فقال وهو يعلن موته: "لقد انتظرنا هذه اللحظة زمناً طويلاً"!
ولم يكن القذافي –في هذه النهاية- أدل على الجبن والخيانة والكذب من أمثاله من أصحاب الجبروت والطغيان. إنهم يثيرون بنهاياتهم الحتمية هذه الشفقة.
تشاوشيسكو الذي حكم رومانيا بالحديد والنار، وبمزاجية عجيبة، أخذ يبكي كالأطفال، حين رأى جديَّة الموضوع في المحاكمة السريعة التي أجريت له عقب الثورة عليه، وزاد عويله حين قام الجنود بتقييده قبل إطلاق النار عليه!
شعب حلب يخرج الآن، مثلما خرج معظم أبناء سورية إلى التيه والملاجئ، وكأن الدكتاتور يوجِّه إلى شعبه الكلمة التي صفعه بها الشعب السوري في بداية ثورته: "ارحل".
ولكنها ما تزال تنطق، باتجاه الطاغية القاتل، في أنقاض البيوت، والأشلاء، وفي كل سورية:
ارحل.. يا خاين.