الرئيسة \  واحة اللقاء  \  اجتماع الدوحة: عمودياً على طريق إيران

اجتماع الدوحة: عمودياً على طريق إيران

18.03.2021
موفق نيربية



القدس العربي 
الاربعاء 17/3/2021 
صدر في ختام اجتماع الدوحة الثلاثي منذ أيام، بيان مشترك مهم في مضمونه المباشر، تصدّرت نقاطه مسألة "الحفاظ على سيادة سوريا، واستقلالها ووحدة أراضيها، وفق ميثاق الأمم المتحدة"، ثم المرور على نقطتين عمليتين لازمتين، تؤكّد أولاهما على عدم وجود حل عسكري للصراع، وتعرب ثانيتهما على موقف إيجابي من عمل اللجنة الدستورية، وضرورة التفاعل المستمر مع الأطراف السورية، من أجل استدامة عملها الفعّال، من خلال دعم جهود غير بيدرسون ممثل الأمين العام للأمم المتحدة. 
ذلك مهم ويمكن العودة إليه بعد قليل، ولكن الأهم منه هو انعقاد ذلك الاجتماع وتوقيته وتركيبته. فانعقاده بالذات تغيير مهم على المحاور والتوجّهات. ويثير الانتباه بقوة تحوّل الروس من تركيز آمالهم على السعوديين والإماراتيين لتحقيق اختراق في عملية إعادة لصق فتات بشار الأسد وشظاياه، إلى الذهاب إلى الدوحة التي تؤكد – مثل تركيا – على أولوية التسليم بالانتقال السياسي. يلفت أيضاً هذا الاستبدال "القاسي" لإيران بقطر، بعد مسار ثلاثي آخر طويل، ابتدأ في آستانة، وكاد ينهي مسار جنيف أحياناً لمصلحته. 
لا بدّ أيضاً من الإشارة إلى تواقت الاجتماع مع ذكرى مرور عشر سنوات على الثورة والحرب والأزمة في سوريا. وقد اهتمّت أطراف رئيسة في العالم بهذه المناسبة، وأصدرت بيانات وعقدت اجتماعات وجدّدت مطالب، في حين لم يكن ذلك على طاولة الدوحة، ولم يجر التطرّق إليه في البيان الختامي، ولا حتى من ناحية الشكليات والبلاغة في البلاغ. على الرغم من كلّ ذلك، للاجتماع أهمية ودلالات، لابدّ من ملاحقتها، ربّما لفترة طويلة. أوّل ذلك، كما أسلفنا، هو غياب إيران والانعطاف إلى قطر، من دون أن نغرق في ذلك عميقاً، قبل التثبّت من صموده في ما بعد. وفي ذلك تنعكس سمات عديدة، منها عروبة قطر، على سبيل المثال، وأهميتها في توجّهات مقبلة تعود فيها بعض جسور العلاقة بين تركيا والعرب. وكان من الطبيعي أكثر المرور على طريق دول الخليج الأخرى الأقرب إلى مصر من الناحية السياسية، كما فعل لافروف بالفعل. لكن الطريق القطري أكثر موثوقية كما يبدو، في سياسة تعتمد على تأسيس عوامل الضغط قبل عوامل المرونة والنوايا الحسنة، وذلك ليس غريباً في السياسة الدولية، والإقليمية خصوصاً. وهنا تلتقي المبادرة كذلك مع استعادة قطرية تقوى بالتدريج للاستراتيجية المستندة إلى قوة وإمكانية "الوساطة"، بدلاً من بعض ما ساد بها سابقاً من المظاهر الأكثر عنفاً، كما حدث في سوريا وليبيا. انعكست دبلوماسية الوساطة مؤخّراً بنجاح في القضية الأفغانية، ويمكن أن تكون لها قريباً مساحة للتحرّك باتّجاه إيران، مع كلّ خصومها، ومع احتدام سجالات الاتفاق النووي، حتى قول نتنياهو إنه "لن يسمح بامتلاك سلاح نووي، مع اتفاق أو بدونه". 
الأكثر غرابة في توجهات أطراف الاجتماع، كان الموقف الروسي، الذي هجر- من حيث الشكل على الأقل- مثلثاً عاش طويلاً بوجود إيران والاعتراف بدورها في المسار السوري، على الرغم من كون الطرفين الروسي والتركي هما الفاعلان المباشران في المسار المذكور، كون أحدهما في العديد من الحسابات متعهداً للنظام، والآخر متعهّداً للمعارضة. وسوف تتمّ إضافة ذلك المعنى إلى مؤشّرات معروفة يتزاحم فيها النفوذ الروسي مع الإيراني على جسد النظام السوري، ويصل ذلك أحياناً إلى حدّ الصدام هنا وهناك على الأرض. 
 
"تحتفل" سوريا بالذكرى العاشرة لثورتها، ولا يبدو على وجهها الفرح كما ينبغي، مع انسداد الآفاق أكثر وأكثر في الأعوام الأخيرة 
 
تحتاج السياسة الروسية إلى مدخل قطري في المسألة الأفغانية، يُضاف إلى مدخل تركي على المسألة ذاتها من خلال المؤتمر المزمع عقده قريباً في إسطنبول. وقد طال بالفعل ابتعاد الروس عن أفغانستان، في حين أنّ لهم جذوراً قوية هناك، دفعوا من أجلها هزيمة وخسائر وضحايا كبرى في السابق، بذلك يمكن لروسيا أن تستملك ورقة جديدة – زائفة في جوهرها- تلعب مع الأمريكيين والغرب عموماً بوجودها وعلى هوامشها. لا يستطيع الإنكار الروسي لتلك المعاني لاجتماع الدوحة أن ينفيها عملياً، بل هو يؤكّدها بشكل غير مباشر، حين يتمّ ربطها بوجود استراتيجية جديدة في واشنطن، وسياسة محتملة لها أكثر نشاطاً. ذلك مهم جداً للروس، الذين يرغبون بربط الملفات المختلفة، التي تجمّعت في علاقتهم مع الولايات المتحدة وأوروبا، بعد أن حققوا ما أرادوه شرق المتوسّط، وبقيت إشكالات أخرى ينبغي عقد "البازار" عليها الآن، وأهمها إنهاء العقوبات الغربية. 
تحتاج تركيا بدورها إلى تعزيز مكاسبها، واستعادة بعض أوراقها التي خسرتها في العاصفة، وتطوير إمكانية دعم الاقتصاد الوطني، وتجميع آثار التشدّد في سياساتها شرق المتوسط، خصوصاً بعد انخراطها في مسار التسوية الليبية وتصفية عوالقها هناك، مع جباية الأرباح والفوائد الممكنة، لذلك لا بدّ من إعادة بناء سياستها العربية، وتحسين علاقاتها مع مصر والسعودية والإمارات، كما ابتدأ يلوح بالفعل في الأفق. 
ولكن ما يحتاجه الأتراك أكثر من أيّ شيء آخر، هو ما عبّر عنه بيان الدوحة في نقطته الأولى، من دعم لوحدة أراضي سوريا، ومواجهة التوجّهات الانفصالية، وبالتالي تحقيق دعم روسي وقطري للاستراتيجية التركية الأكثر مركزية وحساسية في وجه حزب العمال، وأخطار وجود قوة كردية مستقرة مدعومة على الحدود، تراها قابلةً للتحوّل إلى كيان يصعب اجتثاثه إذا قام وتأسس على الأرض. هنا يرغب الأتراك – ويدعمهم الطرفان الآخران بشكل غير مباشر على الأقل – في مواجهة السياسة الأمريكية الجديدة، استناداً إلى وضعية أكثر قوة، تضرب كلّ الاحتمالات الضارة التي يمكن أن تتفرّع عن الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية، انطلاقاً من دورها المطلوب في مواجهة "داعش"، التي ينبغي ألّا تنساها أي محاولة لرؤية سياسية جديدة. ولا يحقق مسار آستانة ووجود إيران ما يمكن لمسار الدوحة الواعد أن يحققه. 
وهنالك مثلث آخر يجري تمويهه أحياناً، له علاقة ما بما جرى في الدوحة، هو الأمريكي- الروسي- الإسرائيلي. وتجتمع أطراف الدوحة كلها على قلب واحد، في ما يخصّ ذلك الاتجاه. فالروس يريدون التأكيد على ثبات مركزهم هناك، ليس من خلال دور في استعادة جثمان جاسوس، أو التزامات متحركة بالحفاظ على مسافة تواجد الإيرانيين وجماعاتهم على الحدود مع سوريا، بل في الضغط على إيران أكثر فأكثر من أجل التخلي عن سياساتها النووية والصاروخية، وطموحاتها الإقليمية التي نمت بشكل خطير حتى الآن.. تحتاج تركيا لاحقاً إلى تموضع أفضل مع إسرائيل في ما يخص شرق المتوسط وصفقاته المقبلة، وتحتاج روسيا إلى تكريس موقع لها أكثر استراتيجية في السياسة الإسرائيلية. وتحتاج قطر إلى الالتفاف على ما تشكّله اتفاقات إبراهام من خطر عليها، مباشر أو غير مباشر. 
وملاحظة هامشيّة: ربّما شكّل انتهاء الحقبة الترامبية، وابتداء حقبة أخرى تبدو مختلفة أكثر من المعتاد، فرصةً لاسترداد الأنفاس للعديد من الأطراف، لتستعيد البراغماتية مركزها ودورها في استراتيجياتها، بعد أن كان الارتجال والعصبية أهمّ ردود الفعل أمام الخوف والقلق حتى الآن.. يظهر مثل هذا التحوّل في سياسات أطراف مثلث الدوحة الجديد بأشكالٍ مختلفة. 
أما سوريا الحقيقية نفسها، فربما ينعكس عليها نشاط هذا المحور الجديد آمالاً بمقاربة عملية لمشكلتها، تكون الأكثر قوة منذ عام 2012 ومؤتمر جنيف وبيانه… سوريا التي فقدت مئات الآلاف من مواطنيها، وربما الملايين من الضحايا، وتشرّد نصفهم في الأرض، وابتعدت آمالهم في بناء وطن حرّ ديمقراطي يؤمن لهم الكرامة والمواطنة المتساوية. إنّها "تحتفل" بالذكرى العاشرة لثورتها، ولا يبدو على وجهها الفرح بذلك أبداً، كما ينبغي، مع انسداد الآفاق أكثر وأكثر في الأعوام الأخيرة. لأهل تلك البلاد، ربّما يكون احتمال تفتيت ما بقي من شرعية للطاغية بتطوير حملات المحاسبة والتجريم، وإجباره على الدخول في عملية تفاوض حقيقية من أجل الانتقال السياسي، وزيادة عزلة وضعف النظام الإيراني، بكلّ ما يشكّله من أخطار داهمة؛ مكسباً مؤكّداً قد يكون هنالك دور لاجتماع الدوحة فيه.. وقد لا يكون.