الرئيسة \  تقارير  \  فائض التشاؤم الأميركي

فائض التشاؤم الأميركي

29.05.2022
الاتحاد


الاتحاد
السبت 28/5/2022
قبل أسبوعين، نشرت مجلة “ذا ناشيونال ريفيو” بياناً موقّعاً من قبل بعض المعلّقين البارزين المحسوبين على اليمين، ويحمل عنوان “أزمة عدم الثقة في النفس الأميركية”. ومما جاء في هذا البيان تحذيره من أن “المزاج الوطني بات يشبه ذاك الذي كان سائداً في ثلاثينيات وسبعينيات القرن الماضي، حينما كانت انتقادات راديكالية لأميركا تحظى بجاذبية معتبرة وكان يبدو في أحيان كثيرة أن الثقة الوطنية في النفس باتت معلَّقةً بخيط رفيع”. وحاجج الموقِّعون، الذين انتقدوا أولئك الذين على اليسار وعلى اليمين ممن أصبحوا “مستائين من المشروع الأميركي”، بأنه “ما زلنا نملك قدرةً هائلة على التجدد”.
وكما يتبين، فإن الأمر لا يتعلق فقط بيأس المحافظين من الشعور السائد باليأس في الولايات المتحدة. ففي مقابلة أجراها الأسبوع الماضي مع زميلاي في صحيفة “واشنطن بوست”، لاي آن كلادوِل وثيودوريك ميار، في أعقاب إطلاق النار الجماعي في بوفالو (نيويورك)، عبّر منسق الأغلبية “الديمقراطية” في مجلس النواب جيمس كليبرن عن موقف مماثل إذ قال: “انظر إلى وضعنا في البلد. يبدو كما لو أن الضربات تأتينا من كل جانب. وتتساءل ما إن كان الناس قرروا أن السعي وراء اتحاد أقوى قد انتهى”. وبالطبع، أجرى كليبرن ذاك الحوار الأسبوع الماضي، أو قبل حادثيْ إطلاق نار جماعي على الأقل.
وبعده مباشرة هزّ البلادَ حادثُ إطلاق نار جماعي في مدرسة ابتدائية في يوفالدي (تكساس)، أسفر عن مقتل 19 طفلا وشخصين بالغين. وكان حادثَ إطلاق النار السابع والعشرين الذي يحدث في مدرسة هذا العام. وهذا بدون شك جانب مؤسف من “الاستثناء الأميركي”.
والرأي العام منقسم بشأن تقنين السلاح، لكن ثمة اتفاقاً قوياً حول بعض التدابير والإجراءات المنطقية. فوفق “مركز بيو للأبحاث” فإن أغلبيات قوية في كلا الحزبين تؤيد منع الأشخاص الذين يعانون أمراضاً عقليةً من شراء الأسلحة. وبالمثل، تؤيد أغلبيات قوية إخضاع مبيعات السلاح الخاصة ومبيعات معارض الأسلحة لعمليات تحرٍّ وتحقق بشأن خلفية المشترين، كما تعارض السماحَ للأشخاص بحمل أسلحة نارية مخفية بدون تصريح.
ومما لا شك فيه أنه لا شيء من هذه التدابير سيُنهي حوادثَ إطلاق النار الجماعي، لكنها يمكن أن تحدّ من عددها. كما أنها ستشكّل مؤشراً على أن المسؤولين المنتخَبين سيردون على الفظاعات بتدابير لمنع مزيد من الفظاعات. وهذه هي الكيفية التي يفترض أن تشتغل بها الحكومة.
غير أن أي شخص مطّلع على الوضع الحالي للمشهد السياسي الأميركي يعي جيداً بأن هذه التدابير لن تمرر. ففي العام الماضي، وقّع حاكم ولاية تكساس غريغ آبوت (“جمهوري”)، مشروعَ قانون حول حمل السلاح بدون رخصة أو تصريح محوِّلا إياه إلى قانون. وبعد إطلاق النار في يوفالدي، قال المدعي العام في تكساس (وهو “جمهوري” أيضاً)، إننا “لا نستطيع منع الأشرار من القيام بأشياء شريرة”، وهو ما يبدو أشبه بحجة انهزامية لوقف تمويل الشرطة أكثر منها بكلام منطقي لمواجهة حوادث إطلاق النار الجماعية.
والحال أن إحدى الطرق الأكيدة لجعل مواطني أي بلد أكثر تشاؤماً بشأن المستقبل تكمن في رؤية مَن هم في السلطة يعترفون بوجود مشكلة سياسة عامة ولا يفعلون شيئاً حيالَها (أو يفاقمون المشكلة في الواقع، كما في حالة تكساس): فبعد ساعة أو ساعتين على انتشار خبر إطلاق النار في يوفالدي، غرّد الصحافي والمدون ماثيو إغليسياس على تويتر قائلا: “على الرغم من كل مشاكلها الحقيقية جداً، فإنه ينبغي ألا يغيب عن نظر المرء حقيقة أن الولايات المتحدة الأميركية المعاصرة واحد من أفضل الأماكن التي يمكن للمرء العيش فيها، وهناك سبب يفسر توق كثير من الأشخاص، من كل الأنواع ومن كل أرجاء العالم، للانتقال إلى هنا”. إيغليسياس تعرَّض لوابل من الانتقادات الشديدة على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب تدوينته التي صدرت في توقيت مستفز. غير أن تغريدته لا تخلو من بعض الحقيقة، على غرار بيان مجلة “ذا ناشيونال ريفيو”. وشخصياً، ما زلتُ أتفق مع فكرة أنه “ليس هناك خلل أو شيء معيب في أميركا لا يمكن علاجه من خلال ما هو جيد وممتاز في أميركا”.
غير أن ما هو صحيح أيضاً هو المعلومة المؤكدة التي مفادها أن أغلبيةً ساحقةً من الأميركيين باتت ترى أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ، وأن الاستقطاب السياسي والتصنيف الأيديولوجي يفاقمان المشكلة.
وإذا كان أشخاص مثل إيغليسياس أو موقّعي بيان “ذا ناشيونال ريفيو”، يرغبون في رؤية نهاية للتشاؤم الأميركي، فإن إحدى الطرق الجيدة لفعل ذلك هي أن يرى الأميركيون مسؤوليهم المنتخَبين يعالجون وباءَ حوادث إطلاق النار التي يتفق الجميع على أنها مصدر خزي وعار.
النخب السياسية الأميركية تقول إنه لا بد من فعل شيء ما، لكنها لا تتفق على ماهية هذا الشيء. والحال أن تعذّر الاتفاق، والفشل في الاعتراف بأن التوافق ليس كلمة نابيةً، وعدم القيام بأي عمل ملموس لمعالجة فظاعة مستمرة، يمثّل طريقة أكيدة لترسيخ التشاؤم الأميركي لعقود طويلة مقبلة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة “واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس”
=============================