الرئيسة \  واحة اللقاء  \  إضعاف المعارضة أم تقويضها؟

إضعاف المعارضة أم تقويضها؟

09.01.2017
عمر قدور


الحياة
 الاحد 8/1/2017
بعد هزيمة حلب المجلجلة، كان محتماً ارتفاع الأصوات السورية لمحاسبة المعارضة على أدائها المساهم في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه. القول أن الهزيمة كانت عسكرية في المقام الأول، وأن اللوم يقع أولاً على عاتق فصائل لا يُعرف عنها امتثال أو تنسيق مع المستوى السياسي، لا يعفي الأخير من مسؤوليته طالما كان إلى حد بعيد ملتحقاً بالمتغيرات في الميدان، لا فاعلاً أو قادراً على الفعل، ولا معلناً مواقف تبرئ ذمته من الأخطاء الفادحة.
فوق ذلك، معلوم أن ائتلاف المعارضة أنشئ برغبة دولية، ونال قبولاً وترحيباً من عشرات الدول، ليقتصر التعامل معه أخيراً على أقل من عشر دول. لا يخفى أن أداء الائتلاف، والخلافات التي عصفت به مراراً، قد ساهمت في إعطاء صورة شديدة البؤس عن البديل المفترض لنظام بشار، حتى إذا كانت هذه مجرد ذريعة من بعض القوى التي قررت تغيير سياساتها إزاء الملف السوري.
قد يُقال إن الدور الأكبر هو للإرادات الدولية، وأن أداء مغايراً لم يكن ليحصد نتائج أفضل بسبب تضافر عوامل عدة مساعدة للنظام. وعلى رغم وجاهة هذه التكهنات فإنها لا تتوقف عند الأثر السلبي لأداء المعارضة داخلياً، فصحّة كل ما نقول عن تخاذل أو تواطؤ دولي قد لا توازن على المدى البعيد مناخ انعدام الثقة لدى السوريين أنفسهم، وهذا قد يكون له الدور الأكبر في تعطيل نضالاتهم السياسية لاحقاً، وقد يكون له دور في تعطيل أية محاولة راهنة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
بالطبع المعني الأول هنا هو المعارضة التي تبنت شعارات الثورة وطُرحت كممثل لها، لا تلك التي ترى نفسها منتصرة الآن فقط بسبب ما يبدو من فشل الأولى.
الآن، ثمة تحركات بدأت تظهر إلى العلن داعية إلى المراجعة والنقد، أو داعية إلى تصحيح مسار الائتلاف، وربما الانقلاب عليه. لكن هناك صعوبات عدة لا بد أن تواجه تلك المحاولات، بصرف النظر موقتاً عن مدى جديتها. لا يمكن مثلاً عدم ملاحظة انعدام الثقة المعمم ضمن بيئة الثورة، ولهذا أسبابه الممتدة إلى ست سنوات، بخاصة انعدام الثقة إزاء أشخاص جربوا حظوظهم في سدة المعارضة، ومهما بلغت نسبة مشاركتهم في الأخطاء، أو انعدمت حتى، فذلك لا يعفيهم من مسؤولية المشاركة وتبعاتها، على أرضية التأخر في النقد والمراجعة على الأقل.
يصعب أيضاً تجاوز ما خلفته ظاهرة الشللية، وأقل منها ربما التحزب، فطغيان الشخصنة وأمراضها على العمل المؤسسي ظاهرة شاعت إلى درجة يظهر فيه التباين السياسي شأناً هامشياً. ليس في الأفق ما ينبئ بعدم تكرار السلوكيات ذاتها، ما دام أصحابها لم يقدموا اعتذاراً أو نقداً ذاتياً لها، وظاهرة رمي المسؤوليات على الآخرين فقط لا تعني من جانب آخر سوى تبرئة الذات. أيضاً، تعكس هذه الظاهرة غياب الديموقراطية والمأسسة في هياكل المعارضة، وعدم استيعاب وجود تيارات متباينة تصب جميعاً في هدف نهائي واحد. على نحو أكثر ابتذالاً، كان التداول في مؤسسات المعارضة تغليباً لداعم على داعم تارة، وتغليباً لمجموعة على مجموعة تارة أخرى، من دون المس بالنهج والأداء المتهافتين.
بصرف النظر عن الحاجة الفعلية إلى مراجعة جذرية شديدة القسوة، اليوم هناك هيكلية يُفترض بها تمثيل الثورة ربما لا يتجاوز عددُ جمهورها عددَ موظفيها، إذا لم ينقص عنهم! واليوم قد تفاوض نيابة عن الثورة، بل المطلوب منها دولياً التفاوض بينما الوضع الميداني في أسوأ حالاته، وبينما هي كذلك أيضاً عطفاً على الوضع الميداني وعلى انعدام الثقة بها وعلى تراجع مكانتها عامة. الحديث عن أيام لا أشهر، يبدأ خلالها مؤتمر الآستانة، ثم قد تُستكمل المفاوضات في جنيف، ومبرر الجدية هذه المرة اقتناص لحظة الضعف.
هذه اللحظة نفسها ترتب مسؤولية أكبر على أي تحرك ضد المعارضة، مع التنويه بأن أصحاب أي تحرك يتحملون قسطاً من المسؤولية نتيجة التأخر في ممارسة ضغط عليها. الآن، من شأن أية خطوة، أو خطوات، لا تملك صدقية كافية وتمثيلاً جيداً أن تُضعف واجهات المعارضة دون تقويضها، ودون قدرة على استثمار الضعف لمصلحة اكتساب اعتراف خارجي أفضل، بخلاف قدرة الخارج على استثماره لمصلحة أجنداته.
على صعيد متصل، ستغذي الانقسامات المستجدة حالة عدم الثقة، لعدم القدرة على إنتاج بديل مقنع. ولا يُستبعد أن تقع أية مبادرة بين فكي الريبة المسبقة ودفاع البنية القائمة عن نفسها، وإذا افتقرت الأخيرة إلى القوة طوال الوقت فقد يكون تهديدها مدعاة إلى تماسك مصالح الباقين فيها، سواء أكانوا أشخاصاً أم أحزاباً وتوجهات. ضمن هذه البيئة قد يسهل تحويل الصراع السياسي إلى تناحر مجموعات أو شلل، بحيث تغيب فيه الأفضلية الفكرية أو السياسية أو الأخلاقية عن جميع الأطراف.
نحن إزاء حلقة مغلقة، فضعف مؤسسات الثورة ناجم عن غياب السياسة والديموقراطية الكفيلتين بفرز تمثيل أوسع، والضعف أوجد مساحة ممتازة لترعى القوى الخارجية تشكيل المؤسسات عوضاً عن السوريين، ولتستغل الضعف تالياً. ذلك ما لا يمكن حله إلا بمعالجة الأصل، أي بممارسة السياسة من جانب أولئك المُعرضين عنها بسبب مآخذهم على الطبقة السياسية، والتحول من وضعية الجمهور المتذمر إلى الفاعل السياسي. ومن البديهي ألا يتحقق ذلك تحت ضغط الحاجة الملحة فحسب، فالعوامل الضاغطة ذاتها قد تتحول إلى مدعاة لليأس والاستقالة من الفضاء العام.
الحق أن عوامل التشاؤم تتغلب على التفاؤل بحدوث انقلاب دراماتيكي، فالسياق السوري العام يشي بأن لا شيء يحدث إلا عندما لا يبقى مفر من حدوثه. لا استباق للقادم، ولا سباق مع الزمن والمتغيرات، بل كان السباقون غالباً هم أولئك الذين يخشون التغيير. تشاؤم العقل يقول إن حالة الثورة ذاهبة إلى مزيد من التفتت، بل إن مفهوم الثورة ذاته بات يفتقر إلى القوة باستثناء تلك المستندة إلى نظام استثنائي في إجرامه. مع الأسف، الثبات عند تلك النقطة لا ينقل الثورة إلى داخلها، ولا يقوّض ما صار عبئاً عليها.