الرئيسة \  واحة اللقاء  \  إدارة التناقضات في الشمال السوري

إدارة التناقضات في الشمال السوري

22.11.2018
مروان قبلان


العربي الجديد
الاربعاء 21/11/2018
لَم تَعُد مشاهد المدرعات الأميركية في شوارع القامشلي، وغيرها من مدن شمال شرق سورية، تعطي، ولو بصيص أمل للسوريين الكرد؛ فالتطمينات المطلوبة اليوم أكبر من ذلك بكثير. يوحي الاقتصار على الرسائل غير المباشرة هذه بأن وراء الأكمة ما وراءها، وسوى التصريح العلني، وسواه فقط، فلا معنى معتبراً لأي موقف أميركي. لَم يَعْتَد الكرد على وجود حليف، أو ظهير لهم في سِلمهم كما يتهافتون عليهم في الحروب، حين ينهال عليهم الدعم العسكري، والثناء على شجاعتهم في القتال، والإقرار بعدالة قضيتهم.
كانت الأعوام من 2014 إلى 2018 فترة ذهبية لكُرد سورية، إذ أقاموا إدارة ذاتية بصلاحيات شبه دولة، تقوم بأعمال إدارية وخدمية شبه تامة، وسياسية خجولة غير ذات جدوى.
لم تُقنع "قوات سورية الديمقراطية" أو عمادها الرئيسي "وحدات حماية الشعب" (الكردية الممزوجة بدماء عربية) المناوئين بأن مشروعهم وطني سوري، وليس انفصالياً كردياً، أو أن يرفع عن نفسه الصفة الكردية، والأوجلانية تحديداً، فقد بقيت فكرة ارتباطها بحزب العمال الكردستاني في تركيا الهاجس الأكبر لحلفائها قبل أعدائها.
قوى عسكرية وأمنية ومؤسسات رسمية، ومناهج دراسية خاصة، أشبه بدولة ضمن دولة، تنتظر مصيرها على طاولة الدول العظمى، وفي الغرف المظلمة.
أصبح كل لقاء بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أو وزير خارجيته، أو أي مسؤول
"ربما ودّ الكُرد لو عادت العلاقة مع روسيا الاتحادية إلى أفضل حالاتها" عسكري أو أمني تركي، مع نظرائهم من الدول العظمى، أشبه بكابوس لسكان المنطقة؛ فالخوف من صفقةٍ على حساب الكرد يكون في أوجه حينئذ.
لا تبدو الخيارات كثيرة، فالعلاقة مع واشنطن كانت عنوان المرحلة السابقة، والتي اتسمت بالتحالف العسكري الوثيق، الذي لم يقابله سياسياً ما يشفع دماء الآلاف من أبناء المنطقة، إذ لم تعترف إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، ولا الحالية، بالإدارة الذاتية المعلنة أوائل عام 2014، ولا بالفيدرالية الموؤودة لاحقاً.
لا يبدو التحالف مع واشنطن بشكله الحالي الأمثل لسكان المنطقة، فالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كان قد دق ناقوس الخطر أوائل عام 2018، حين أعلن عن خطط لسحب جنوده من سورية. وما لم يتم التركيز عليه حينئذ حديث ترامب عن عدم النجاعة الاقتصادية للوجود الأميركي في المنطقة، أي أنها ( أميركا) تنظر إلى سورية بعيون اقتصادية وحسب، ولا مصلحة استراتيجية لها فيها.
يبدو هدف الولايات المتحدة في محاربة الهيمنة الإيرانية في المنطقة، ومنها سورية بالطبع، ليس من السهل على "سورية الديمقراطية"، أو أي فصيل كُردي القيام به، نظراً لعلاقة "الجمهورية الإسلامية" التاريخية مع تنظيمات كُردية عديدة، العسكرية منها والسياسية.
ويعني التعامل الأميركي التكتيكي مع المنطقة أنها عرضة للبيع في بازارات السياسة، وما أكثر من سوف يرضى بشراء الورقة، مثل روسيا التي تريد الحفاظ على سورية موحدة وحكومة موالية لها، وكذلك إيران والحكومة السورية اللتان تريدان تجنب أي مسّ بحدودهما الحالية.
الأكثر تحمساً لحصول انتهاءٍ من هذه "الورقة القضية" هي أنقرة، المستعدة للتضحية بالكثير في سبيل إجهاض أي مشروعٍ يكون لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) كلمة الفصل فيه، وقد تدخلت بشكل مباشر مرتين في سورية، وكانت كلاهما لوأد المشروع الفيدرالي الكُردي في سورية، والوصول به إلى البحر. كانت أولاها أوائل عام 2016، وسيطرت به على جرابلس والباب وإعزاز، وأتبعتها بالسيطرة على عفرين أوائل عام 2018.
ربما ودّ الكُرد لو عادت العلاقة مع روسيا الاتحادية إلى أفضل حالاتها، فموسكو هي الأكثر تمسّكاً بوجودها في سورية، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يعقد الصفقات تلو الأخرى مع تركيا وإيران من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، ويقيم اتفاقاتٍ مع فرنسا وألمانيا وغيرهما من الدول لتثبيت "انتصاره" في سورية.
وحدها منطقة شرق الفرات بقيت خارج الملعب الروسي. وعليه، أصبحت الضغوط كلها
"وحدها منطقة شرق الفرات بقيت خارج الملعب الروسي" منصبة عليها، وسيكون على كرد سورية عدم التجرؤ، ولو بالتفكير، في تكرار سيناريو الحرب، والمفاضلة بين سيناريو كوباني (عين العرب)، وعفرين؛ فمن المفترض أنهم توصلوا إلى قناعة بأن أي معركةٍ ضد دولة كتركيا لا تشبه ألبتة حربهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وبالتالي فنتيجة خيار أي صراع قادم محسومة.
ليست الجبهة الداخلية في الشمال السوري بذلك التي يمكن التعويل عليها؛ فالتنوع العرقي والديني، والسياسي حتى، لا يساهم، إلى الآن، في التماسك لمواجهة أي صراع قادم، سواء مع أنقرة أو دمشق، اللتين تحتفظان بأوراق سياسية ومجتمعية، واقتصادية، قد تستخدمانها في المرحلة المقبلة.
سيكون على الكُرد الاختيار بين مقاومةٍ نهايتها هزيمةٌ أشد مما كان عليه الحال في عفرين، وتسليم المنطقة للحكومة السورية، في مشهدٍ يعيد إلى الأذهان العرض الروسي الذي سبق حرب عفرين، والذي اقترحت موسكو بموجبه دخول القوات السورية إلى المدينة وعودة المؤسسات الرسمية، تجنباً لأي سيناريو غير محسوب العواقب، والذي قوبل برفضٍ كُردي آنذاك، وندم لاحق. أما السيناريو الآخر المتمثل بحوار أو تفاوض مع الحكومة السورية، يفضي إلى حلٍّ توافقي على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، فيبدو أنه يضيق، ولم يعد متسع من الوقت لتنفيذه، وستكون الأيام المقبلة حبلى بما ينتظره أهالي المنطقة.
يتمتع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بقدرات لافتة في إدارة التناقضات والفصل بين الملفات، ففي وقتٍ كان يخوض فيه صراعا كبيرا مع إيران في سورية خلال الأعوام 2011-2015، كانت علاقات بلاده التجارية معها تزدهر، لا بل تحوّلت تركيا إلى الرئة التي تتنفس منها إيران في ظل العقوبات الصارمة التي فرضتها عليها واشنطن دوليا، لإرغامها على تسليم برنامجها النووي. ومازالت قضية بنك خلق التركي، ورئيسه حاقان أتيلا، المعتقل في الولايات المتحدة منذ مايو/ أيار 2017، بتهمة مساعدة إيران في الالتفاف على العقوبات، تتفاعل بانتظار حلها.
لا تختلف علاقة الرئيس أردوغان بروسيا كثيرا، ففي وقتٍ كان يحتفل مع الرئيس بوتين بإنجاز المرحلة البحرية من خط السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى تركيا وأوروبا، ويعد بتعاون اقتصادي مديد مع موسكو، كان الخلاف محتدمًا بين الطرفين بشأن موضوع اللجنة الدستورية السورية، والتي يسعى كل طرف إلى تشكيلها بصورة تلائم مصالحه، فيما اتفاق سوتشي بشأن إدلب يكافح من أجل الصمود.
لكن قدرات الرئيس أردوغان هذه سوف تواجه، في المرحلة المقبلة، اختبارا كبيرا في الساحة الأهم بالنسبة الى تركيا، وهي سورية. هنا، وتحديدا في الشمال السوري، يواجه أردوغان معضلة إدارة مجموعة هائلة من التناقضات التي تتأثر، ليس فقط بتغير المصالح والسياقات، بل أيضا باختلاف الظرف والمكان.
ينقسم الشمال السوري إلى قسمين رئيسين، مناطق شرق الفرات، حيث تسيطر "وحدات حماية الشعب" الكردية (عدو أنقرة الرئيس) بدعم من الولايات المتحدة (حليف أنقرة الرئيس في حلف الناتو). ومناطق غرب الفرات حيث تسيطر تركيا مباشرة، أو عبر حلفائها في المعارضة السورية، على مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون" التي تمتد من جرابلس، عند نقطة دخول نهر الفرات إلى الأراضي السورية، وصولا إلى محافظة إدلب (جنوب غرب).
كان وجود تركيا في مناطق غرب الفرات مرتبطاً دائمًا بموافقة روسيا، وحصيلة اتفاقات ثنائية بين الطرفين، إذ تمت عملية درع الفرات في شهر أغسطس/ آب 2016 مباشرةً بعد تحسّن العلاقات التركية - الروسية، إثر مساندة بوتين أردوغان في مواجهة المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو/ تموز من العام نفسه. حصل الأمر نفسه في عملية غصن الزيتون، عندما وافقت روسيا على اقتحام تركيا منطقة عفرين مطلع العام 2018، وطرد قوات الحماية الكردية منها، مقابل تعهد تركيا "بإقناع" المعارضة السورية المشاركة في مؤتمر سوتشي "للحوار الوطني السوري". لكن الوضع في إدلب بدا مختلفا بعض الشيء، وعلى الرغم من أن اتفاق سوتشي لإنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب جاء حصيلة تفاهمات روسية – تركية، إلا أنه ما كان ليتم، لولا الدعم الأميركي المفاجئ لتركيا في موقفها بخصوص إدلب، ذلك أن قمة طهران التي سبقت سوتشي بعشرة أيام كانت تشير إلى أن الأمور متجهة نحو معركة كبرى في إدلب.
بات معروفا اليوم أن واشنطن لعبت دورا رئيسا في كبح جماح عملية عسكرية واسعة النطاق في إدلب، ذلك أن مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، أجريا، بناء على طلب ترامب، اتصالاتٍ عاجلة بالروس، وأبلغوهم بالموقف الأميركي الرافض بقوة هجوما على إدلب. ترافق ذلك بتهديدات أميركية باستخدام القوة، في حال تم هذا الهجوم، واستخدمت فيه أسلحة كيميائية. فوق ذلك، طلبت واشنطن من أنقرة تعزيز وجودها العسكري في إدلب، لمنع إيران من السيطرة عليها، وأبدت استعدادا لدعمها في حال حصول مواجهة.
وفيما يبدو أن تركيا تعتمد على دعم أميركي للاحتفاظ بإدلب، يبدو المشهد مختلفا كليا في مناطق شرق الفرات. هناك تبدو تركيا أقرب إلى مواقف روسيا وإيران، اللتين تسعيان إلى إخراج الأميركيين من المنطقة. وتعج وسائل إعلام بتكهنات عن استعدادات تركية للتعاون مع خصومها في مناطق غرب الفرات، لجعل حياة حلفائها الأميركيين صعبة في مناطق شرق الفرات. كما تنظر تركيا في إمكانية المساعدة في عودة النظام إلى السيطرة على المنطقة، لقطع الطريق على الأجندات السعودية والإماراتية التي تشارك الأميركيين في دعم الأكراد! إذا نجحت تركيا في إدارة هذه التناقضات، تكون قد تعلمت الكثير، فينا.