الرئيسة \  واحة اللقاء  \  إخفاء صورة الجريمة لا يسقطها

إخفاء صورة الجريمة لا يسقطها

28.08.2017
د. يحيى العريضي


 كلنا شركاء
الاحد 27/8/2017
استنفر كثير من السوريين المكلومين لتغييب أو إسقاط ستة آلاف فيديو من الشبكة العنكبوتية/الإنترنت/؛ توثّق إجرام نظام الأسد. شعر البعض أن جزءاً من دليل الإدانة (وقد يكون مهماً جداً) قد اختفى أو أُخفيَ بقصدية. مع احتلال ما يُسمّى الـ “social media” / الإعلام المجتمعي/ حيّزاً جباراً في حياة الناس والمؤسسات الحكومية وغيرها، لا تستطيع المحاكم أن تكون جُزُراً معزولة خارج تأثير طيف هذه الأدوات التقنية، وخاصة أنها بأمسّ الحاجة إلى الدلائل القطعيَّة لإصدار أحكامها بشكل عادل ومتوازن.
وعلى الرغم من أن الصورة – حتى لو أضيف إليها الصوت- تبقى، حسب المرجعيات القانونية، دليلاً غير قاطع للإثبات؛ وخاصة بحكم التطور التقني لعمليات “المونتاج”؛ إلا أن غياب هذا الحجم الهائل من الوثائق التقنية كدلائل مدعمة لإثبات جرائم وقعت خلال الأعوام الستة الماضية من قبل نظام الأسد، يبقى أمراً غيرَ عاديٍ أو غير بريء.
تلك الفيديوهات رفعها على شبكة الإنترنت نشطاء إعلاميون في الثورة السورية، إضافة إلى مؤسسات إعلامية كثيرٌ منها يُعتَدُّ به. ولم يكن المقصود منها التسلية ولا تحقيق هوايات شخصية، وإنما حمَلَت هدفاً جوهرياً يتمثل بجمع الأدلة على إجرام نظام بحق شعبه؛ عسى أن تستفيد منها المحاكم يوماً ما كمواد لإدانة الفاعل.
ومعروف أن مئات الورش والمراكز البحثية تأخذ من تلك الفيديوهات مادتها الأرشيفية والبحثية والتحقيقية لتجهيز ملفات تٌقَدَّم للعدالة المُنتظَرَة. الآن، فجأة تغيب كل تلك الوثائق عن شبكة الإنترنت. فهل هذا مصادفة؟ أهو بسبب بشاعة محتواها وبحجة إيذائها للنفس البشرية؟ أهو تحولها إلى حمل ثقيل على مخدمات “servers” الإنترنت؟ أم أن للمسألة خلفيات سياسية، قد تصل إلى إخفاء دليل على جريمة؟
الإجابة القطعيَّة عن هذه الأسئلة غير متوفرة مع استبعاد الأسباب التقنية وترجيح السبب الأخير. هناك مَن يعتقد أن ما يحدث ليس أقل من خطوة سياسية مقصودة تمثل جزءا من حملة أوسع تسعى إلى تبييض صفحة المجرم بحق سورية وأهلها؛ فقد بدأت هذه الحملة منذ أكثر من شهر بخطوات ومواقف سياسية ملحوظة حتى للعين المحايدة والذهن اللا مبالي. لقد كانت بدايتها بالتركيز على إجرام داعش، والإهمال المقصود لإجرام نظام الأسد الذي فاق بإجرامه منظومة داعش، حيث يكفي أن تعرفَ أن لا طائرات لدى داعش لتحمل البراميل والغازات السامة لتقتل السوريين.
وكان قد تبع ذلك تكريس عدم وجود بديل للأسد والتركيز على التطرف الإسلامي التكفيري وعلى أن الأسد “عدو لشعبه” لا لشعوب أخرى, إضافةً إلى إدعاء داعش المسؤولية عن أي عمل إرهابي يقع في العالم. لقد تواكب ذلك مع خطاب لرئيس النظام السوري يعلن فيه عودة الأمور لطبيعتها في سورية و أن ما تبقى لديه هو مجتمع متجانس إضافة إلى فتحه معرض دمشق الدولي، وتغنيه بزيارة مسؤولين أجانب إلى سورية وترفعه عن التنسيق الأمني مع الخارج بحيث يريده تنسيقا رسمياً، إلى درجة طلب الاعتذار من الآخرين. إنها حقيقة حملة التيئيس والإحباط التي تُشن على كل من قال ويقول “لا” لاستبداد ودكتاتورية منظومة الأسد, بحيث لا يكون لهم حول ولا قوة، ولا يكون أمامهم إلا الاستسلام، والعودة صاغرين يائسين معتذرين عن فعلتهم الشائنة.
وها هي إزاحة الفيديوهات، تأتي لتساهم بتبييض صفحة النظام، وتساهم بإعادة تأهيله أو تكراره دون “شوائب” قد تكون دلائل على إجرامه بحق شعبه. ما حدث ليس إلا جزءاً من تلك الحملة الأوسع، ليفلت المجرم من المحاكمة والعقاب على جرائمٍ شهدها العالم لست سنوات متواصلة.
ولكن، وللعلم؛ فإن آلاف الفيديوهات التي حُمِّلت على الإنترنت لم تأتِ من فراغ؛ وما هي النسخة الوحيدة التي إذا ضاعت، ضاع الدليل. فإذا كانت ستة آلاف فيديو قد حُذفت، فليبشر العالم بستين ألف منها؛ وهي متوفرة، وبنسخٍ عدة. والأكثر من ذلك، أنه إذا كان الفيديو دليلاً الكترونيا, فهناك الدليل الحي؛ شاهد العيان- ممن أبقاهم نظام الأسد على قيد الحياة. هناك أكثر من عشرة ملايين سوري تبعثروا في أربع أصقاع الأرض هرباً من براميل النظام و طائراته، هناك مذابحٌ، عظام أصحابها ما تزال حية موجودة في مختلف بقاع سورية، هناك ما يقارب المليون مُقْعَد تسببت حرب الأسد على شعبه بإعاقتهم، وهناك ما لا يقل عن ربع مليون سوري ما زالوا في معتقلات النظام (هذا إن لم يكن قد ذبحهم أو أحرقهم أو قتلهم تحت التعذيب). و بإمكان مجلس الأمن أن يصدر قرارا بتكليف لجنة تدخل تلك السجون لترى بنفسها “الهولوكوست” السوري. وهناك آلاف ملفات الإجرام المتراكمة في خزائن الأفراد والمؤسسات ومراكز البحث والتحقيق حول العالم. وفي اللحظة التي سيقرر فيها هذا العالم فتح محكمة لهذا النظام المجرم، ستجد ملايين الأدلة لا ستة آلاف فيديو توثق جرائمه؛ ستجد داخل كل سوري مليون شهادة على إجرام النظام؛ شهادات تغمر كل محاكم العالم.
لم يكن هناك انترنت, ومحاكم “آوشوتس” الألمانية حكمت على النازية. ولم يحتج “الهولوكوست” توثيقات لتستمر إدانته في كل لحظة من حياتنا الحاضرة والمستقبلية. وما كان هناك حتى صورة إعلامية واحدة لمجازر حماة التي ارتكبها مؤسس منظومة الأسد، ولا تزال حيةً؛ و كأنها تحدث الآن. ما حدث في سورية تجاوز “هولوكوست” هتلر؛ ولينزعج اليهود.
يبقى العتب – على أية حال – على تلك الشبكة العنكبوتية, التي لقيت كل اهتمام وترحيب وتقدير لموثوقيتها وخدماتها الجليلة للإنسانية؛ ولكن أن تنسف مصداقيتها وتوازنها باشتراكها بحملة تبييض صفحة الإجرام أمر غاية في الغرابة؛ فإخفاء دلائل الجريمة اشتراك بها؛ وسقوط الصورة لا يسقط الأصل.