الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أي بوصلة تجمع السوريين اليوم؟

أي بوصلة تجمع السوريين اليوم؟

30.05.2019
رشيد الحاج صالح


جيرون
الاربعاء 29/5/2019
هناك أطراف عديدة تتجاذب الثورة السورية، منذ اندلاعها عام 2011، بغية تقديم نفسها على أنها أمّ الولد وصاحبة حق الحضانة، لتجعل من نفسها في النهاية البوصلةَ التي توجه الثورة، وعمودها الذي يشكل أساس بنيانها، بحيث يتم تهميش أو استبعاد، بل شيطنة، كلّ من لا يسير بموجب تلك البوصلة.
مثل تلك التجاذبات، التي أخذت تتزايد بعد أن دخلت الثورة في تعقيدات كثيرة، انتهجت طريق تقديم براديمات، أو نماذج تفسير متكاملة، تجعل للثورة أهدافًا محددة، وتنشئ لها سرديات متكاملة، وخطابًا متماسكًا يقدّم قراءة وتحليلًا لكل تطوراتها، وبخاصة لأسباب تعثرها.
في هذا المقال، سنتناول ثلاث سرديات للثورة السورية، تشترك في قضايا وتختلف في قضايا أخرى، بحسب الباراديم الذي تنطلق منه والأيديولوجية التي تصدر عنها، على الرغم من أن ما يجمعها أكثر بكثير مما يفرقها، وعلى الرغم من أن ما يجمع بينها وبين النظام الأسدي أكثر بكثير من الذي يجمع بينها وبين المؤمنين بالثورة. وهذه القراءات الثلاث هي قراءة أدونيس ومن ورائه قسم كبير من اليسار العربي التقليدي، وتفسير عبد الله المحيسني لمأزق الثورة السورية بعد عام 2016، ومن ورائه التنظيمات الإسلامية العسكرية بكل أجنحتها، وقراءة الدكتور عماد الدين الرشيد، ومن ورائه التيار الإسلامي الدعوي والفقهي.
يعترف الشاعر السوري أدونيس، كما هو معروف، بأن الثورة السورية أمرٌ يحتاج إليه السوريون، ولكن الزمان والمكان غير مناسبين، وهذا يعني -بالنسبة إليه- أن المجتمع السوري غير مستعد، وقد يكون غير مؤهل للثورة؛ لأنه مجتمع يعاني من تخلف كبير وتطرف يجعلانه أكثر تخلفًا من النظام السوري نفسه، ولذلك فالمسألة تبدأ عنده بتغيير المجتمع لا بتغيير النظام. ولذلك لا يخفي أدونيس قلقه من “تظاهرات تخرج من الجوامع”، ضد “رئيس منتخب” وإن كان لديه بعض الملاحظات على هذا الرئيس.
بالمحصلة؛ بوصلة أدونيس لا تثق بالسوريين، حتى إنه يضع شروطًا لتعاطفه مع الثورة السورية، أولها أن يتم تغيير “مؤسسات المجتمع” الإدارية والاجتماعية والثقافية (يذكّر هذا الطرح بالإصلاح الإداري والاقتصادي الذي طرحه بشار الأسد عام 2001، للهروب من مطلب الإصلاح السياسي الذي طرحه السوريون حينذاك). أما الشرط الثاني الذي يضعه أدونيس فهو أن تشترك في الثورة السورية الكتلُ السكانية الكبرى الموجودة في المدن الكبرى، في تلميح إلى أن الثورة السورية ربما كانت مجرد هبّات ريفية أو شعبية محدودة. أما الشرط الثالث الذي يضعه أدونيس على الثورة التي جعلته “متلعثمًا”، على حد تعبير صادق جلال العظم، فهو أن تنطلق من مرجعية علمانية أولًا. برؤية كهذي يعتقد أدونيس أن الثورة السورية بلا أفق، وأن علينا أن نوجه رسائل إلى “الرئيس المنتخب” حتى ينظر بأحوال السوريين!
أما عبد الله المحيسني، وهو شخصية اشتهرت بين عامي 2014 و2016، بوصفه أحد خطباء ووجهاء التنظيمات الإسلامية المسلحة في سورية، مثلما عمل قاضيًا شرعيًا لأحداها، فيقف مع أدونيس بأن السوريين غير جديرين بالثورة، فقد وجد المحيسني -من بعد معاشرته لهم- أنهم “يسبون الذات الإلهية” وأن الله سبحانه وتعالى سلّط عليهم الطيران السوري والروسي، بسبب ذلك السلوك المشين. ويُفهم من كلام المحيسني، إضافة إلى الكثير من التفسيرات والخطب والفتاوى التي تعود إلى شرعيي تلك التنظيمات، أن المشكلة في السوريين أنفسهم، على الطريقة الأدونيسية، طبعًا مع اختلاف التوصيف الأيديولوجي للثورة. الاختلاف بين أدونيس والمحيسني أن أدونيس ينتقد السوريين لشعوره بأنهم لم يعودوا يقبلون بالنظام القائم، بينما ينتقد المحيسني السوريين، لشعوره بأن السوريين لن يقبلوا بالتنظيمات الإسلامية المسلحة بديلًا للنظام.
الطرف الثالث الذي أخذ يصارع للاستيلاء على السوريين وثورتهم هو مجموعة من الدعاة والفقهاء السوريين المناوئين للنظام الأسدي، الذين أخذوا يصورون الثورة على أنها ليست تظاهرات خرجت للمطالبة بالحرية والديمقراطية والتخلص من ظلم وفساد النظام القائم، وإنما على أنها صراع بين الإيمان والكفر، بين الإسلاميين والعلمانيين، وعلى أنها ثورة تنطلق من براديم إسلامي ولا مكان فيها لأي شخص لا ينطلق من ذلك البارديم.
يشبه هذا التيار الفقهي النظام الأسدي، من عدة وجوه، وإن كان يختلف عنه أيدولوجيًا. أول نقطة يتشابه فيها هذا التيار مع النظام الأسدي هي اعتقاده بـ “نظرية المؤامرة ” بشكل مطلق. فهو شديد التركيز على العوامل الخارجية التي أثرت في الثورة السورية، ويختصر الموقف العالمي بأنه موقف سلبي، لأن الثورة تريد أن تعيد أمجاد الإسلام والمسلمين. الاختلاف الوحيد في هذه النقطة أن هذا التيار يعتبر نظام بشار الأسد عميلًا للغرب، بينما يعتبر النظام الأسدي أنهم هم العملاء للغرب. هم حماة الإسلام، ولذلك يتآمر عليهم الغرب، وهو حامي القومية والمقاومة، ولذلك يتآمر عليه الغرب.
ومثلما يلح النظام الأسدي على تقسيم السوريين إلى وطنيين ولا وطنيين، علمانيين وإسلاميين، واختصار الوطنيين بالمؤيد له، كذلك يلح هذا التيار على تقسيم السوريين، بين علمانيين وكفار، ومؤدلجين بالباراديم الغربي الذي يتبنى الديمقراطية وحقوق الإنسان والعلمانية، وبين إسلاميين يريدون إقامة شرع الله. مثل هكذا طرح جعل التيار الفقهي ينظر إلى العلمانيين السوريين على أنهم هم (الآخر)، وهم من يجب محاربته، لدرجة أن الدكتور عماد الدين الرشيد، وهو أستاذ سابق للشريعة بجامعة دمشق ومعارض للنظام السوري، يوجه تأنيبًا شديد اللهجة إلى المسلمين الذين ترحّموا على المفكر السوري (العلماني) طيب تيزيني الذي توفي قبل أيام، في خطاب يريد أن يقول إن الصراع بين السوريين يجب أن يكون أولًا بين الإسلاميين والعلمانيين، دون أن يوضح الدكتور رشيد هل عَلى المسلمين الذين ترحّموا على الطيب تيزيني دفع كفارة أو يشبه ذلك أم لا! أو هل ذلك الترحم يخرجهم من ملة الإسلام أم لا!
العلمانية عند الدكتور عماد الدين الرشيد “لا تؤمن بالغيب ولا بالله” -على حد تعبيره- على الرغم من أن الملايين من المسلمين الأتراك من أعضاء حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية هم علمانيون، وعلى الرغم من أن الأغلبية العظمى من مسلمي الهند البالغ عددهم أكثر من 250 مليون هم علمانيون -حوالي خُمس العالم الإسلامي- وعلى الرغم من أن الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي غضب من رجب طيب أردوغان، عندما نصحه، بعد استلام الحكم في مصر، أن يتحول بالإخوان المسلمون في مصر إلى العلمانية.
مصيدة “العلمانية” بالنسبة إلى التيار الفقهي، تشبه مصيدة “الوطنية” بالنسبة إلى النظام السوري. هما مجرد وسيلة لإقصاء المختلف والمزاودة عليه، بل من أجل تكفيره وتسفيهه وإقصائه. فالنظام يريد التفريق بين الناس عن طريق التنميط، بقصد تسهيل السيطرة، والتيار الفقهي يريد النيل من غير الإسلاميين حتى ولو كانوا من أعمدة الثورة السورية.
وعلى الرغم من أن التيارات المؤمنة بالثورة عليها أن تتبنى خطابًا يجمع أكبر قدر ممكن من الناس، ويوسع دائرة المشتركات التي تقرب السوريين على قاعدة الحريات ومطالب العدالة والمساواة والعيش الكريم، فإن الخطاب الفقهي المذكور متورط في خطابات وحسابات تخدم في النهاية النظام الأسدي، ولا تفيد المؤمنين بالثورة في شيء. وهذا يعني من جملة ما يعني أن التيار الفقهي غير مهتم أصلًا بالثورة السورية، وتكاد أدبيات الفقهاء تلغي من قاموسها شيئًا اسمه ثورة، هم يدعونها “فتنة”. ولكن ما حصل أن الثورة اندلعت وأصبحت أمرًا واقعًا، ثم بعد ذلك أخذت تثير شهية الفقهاء والدعاة، كوسيلة لتنشيط دورهم على الساحة العامة، وسورية ما بعد الثورة.
نصل إلى النتيجة المحزنة التي تفرض نفسها علينا بكل وضوح، وهي أن التيارات الثلاثة التي تحدثنا عنها لا تؤمن بالثورة إلا في حدود الأهداف التي تضعها هي للثورة، وهي أهداف وحسابات ليس للسوريين وحقوقهم ومطالبهم بالعيش الكريم أيّ مكان فيها.
فأدونيس يقرأ الثورة السورية قراءة أسدية، ولولا بعض الحياء لخرج علينا وأعلن أن الأسد انتصر، والمحيسني يقرأ الثورة السورية قراءة من لا يريد من السوريين سوى التسلط عليهم وتحويلهم إلى رعاع على طريقته الخاصة، ولولا بعض الحياء لقال إن السوريين يستحقون ما تفعله طائرات الأسد بهم. أما التيار الفقهي فيقرأ الثورة قراءة إيمانية، تلقي على الثورة أهدافًا إسلامية مسبقة أتت من خارج الثورة لتجثم على صدرها، ولتزيد من ارتباكها الذي يزداد يومًا بعد يوم. أهداف تخرج الثورة من جلدها لتلبسها أثوابًا مستعارة لم تكن الثورة تفكر في ارتدائها عندما اندلعت في عام 2011. ولو كان الدكتور عماد الدين الرشيد يمتلك صلاحيات على الأرض، لأمر بسجن كل من ترحّم على الطيب تيزيني، أو في أحسن الأحوال لفرض عليه مئة جلدة.
من هنا، تكتسب مهمة تحديد بوصلة جامعة لكل السوريين المؤمنين بالثورة أهميةً استثنائية، بحيث تكون هذه البوصلة بديلًا من تلك البوصلات المزيفة التي تريد أن تلوي عنق الثورة، وتسير بها إلى طرق ومتخيلات لم تخطر بذهن السوريين، عندما نزلوا إلى الشوارع بالملايين يريدون الحرية والكرامة فقط لا غير.
ويعد مؤشر الديمقراطية، وما ينتج عنها، من مفاهيم العدالة والحقوق والعلمانية والمساواة والحريات الدينية.. القاعدة المتينة، وعمود الثورة الرئيسي، وركنها الشديد، وكل من لا يؤمن بهذا المؤشر والسند الأساسي للثورة، الثورة منه براء وهو براء منها إلى يوم الدين، يحق له أن يتبنى ما يحلو له من أفكار وأيديولوجيات، ولكن بعيدًا عن الثورة أو محاولة الاستيلاء عليها. من لم يتعلم من الثورة لا يستطيع أن يكون أحد أبنائها، ومن لا يؤمن بالسوريين بكل أطيافهم وأيديولوجياتهم وطوائفهم لا يستطيع أن يحسب نفسه على الثورة.
وهل يمكن لشخصٍ يسيء إلى من قال كلمة حق في وجه حاكم جائر، أن يقدم للثورة شيئًا؟!