الرئيسة \  مشاركات  \  أوراق الربيع (18).. الدولة العلمانية المستحيلة

أوراق الربيع (18).. الدولة العلمانية المستحيلة

11.05.2017
محمد مختار الشنقيطي



أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان
(الحلقة الأخيرة)

وُلدت الدولة العلمانية في الغرب ظاهرة طوعية، متزامنة مع ميلاد الديمقراطية والحرية السياسية، وفي مجتمعات منسلخة من دينها، بينما ولدت الأديولوجيا العلمانية في العالم الإسلامي ظاهرة قهرية، على أسنَّة رماح الدولة الاستعمارية، ثم ربيبتها الدولة الاستبدادية. فكانت أداةً لسلخ مجتمعات متدينة من دينها قسراً. وقد لاحظ الباحث التركي أحمد كورو من خلال مقارنته بين العلمانيتين الفرنسية والتركية -وكلاهما علمانية خشِنة- الفارقَ بين المسار التاريخي في كل من جمهورية تركيا الكمالية والجمهورية الفرنسية الثالثة التي امتد عمرها سبعة عقود (1870 -1940).
ففي فرنسا تحالف الكاثوليك الفرنسيون المتديِّنون مع النظام القديم والثورة المضادة، وسعوا إلى استخدام أدوات القهر -بما فيها الجيش- للإبقاء على النظام الاستبدادي المهترئ، وحاربوا القوى الثورية الفرنسية المدعومة شعبيا، بينما كانت القوى السياسية المتديِّنة في تركيا هي وقود المعركة من أجل تحقيق الديمقراطية خلال العقود الماضية، واعتمد العلمانيون الأتراك على وسائل القهر -خصوصا الجيش- للتحكم في رقاب الشعب، ومنْع التغيير والإصلاح الديقمراطي.
يقول أحمد كورو: "في الأيام الأولى للجمهورية الفرنسية الثالثة خطَّط الكاثوليك لاحتواء النفوذ الجمهوري في البرلمان من خلال سيطرة الملكيين على الرئاسة والجيش... وعلى العكس من ذلك، ففي الحالة التركية حاول أتباع العلمانية الحازمة الحدَّ من صلاحيات البرلمان المنتخَب، من خلال الهيمنة الكمالية على الرئاسة والجيش والقضاء." (أحمد كورو، العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين: الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا، 369-370.)
وقد أنتج هذا الاختلاف في الماضي اختلافاً في الحاضر، نظراً للفارق بين المجتمعين الفرنسي المسيحي والتركي المسلم في الخلفية الدينية والثقافية، حيث حافظت العلمانية الفرنسية على طابعها الديمقراطي الحرّ وتقبَّتلها غالبية المجتمع الفرنسي عن طيب خاطر، فساعدت على وحدة المجتمع والتحامه، بينما نحت العلمانية التركية منحىً استبداديا قسريا بسبب مقاومة المجتمع لها، فكانت نتيجتُها انشطاراً في الذات الاجتماعية التركية.
وقد لاحظ الباحث التركي ذلك، فكتب: "في الزمن الحاضر يتناسب التدين المتدني للمجتمع الفرنسي مع الأديولوجيا العلمانية الحازمة للدولة. ومن الممكن أن كليهما مرتاحين (كذا) لغياب الدين من المجال العام. تعاني تركيا من التناقض، من حيث إن مجتمعاتها من أكثر المجتمعات تديُّنا، وسياساتها من أكثر سياسات الدولة العلمانية الحازمة تطرفا." (أحمد كورو، العلمانية، 373).
 
فالصراع الذي تعيشه تركيا اليوم يشبه -إلى حد بعيد- الصراع في أحشاء فرنسا خلال الجمهورية الثالثة، حيث تتصارع قوى الاستبداد والتخلف مع قوى الحرية والتجديد. والفارق الأساسي هو أنه في الحالة الفرنسية وقف الكاثوليك الفرنسيون المتدينون في صف قوى الاستبداد والتخلف، ووقف العلمانيون الفرنسيون مع الحرية والتقدم. أما في تركيا الجمهورية المعاصرة فيقف العلمانيون الأتراك في صف الاستبداد والتخلف، وتقف القوى الإسلامية في صدارة الدفاع عن الحرية والتجديد والازدهار واستقلال القرار.
 
 وما انتهجه العلمانيون الأتراك من اللجوء إلى القهر والقسر هو ما يكرره العلمانيون العرب الذين وقف أكثرهم مع الاستبداد، وتحالفوا مع الجيوش لوأد الثورات، بل وساندوا الانقلابات العسكرية الفجَّة على السلطات الإسلامية المنتخَبة، كما رأينا في الجزائر منذ عقدين، وفي مصر منذ عامين. وكاد العلمانيون التونسيون يغتالون ثورة الشعب التونسي سعيا إلى إخراج حركة النهضة من الحكم الذي حصلت عليه في انتخابات حرة نزيهة. وكان من المفارقات أن نسمع قُبيْل انقلاب السيسي عام 2013 بعض المنظرين العرب الذين لا يفتأون يقدمون أنفسهم للجمهور العربي على أنهم "مثقفون ديمقراطيون" وهم ينظِّرون لضرورة تحكّم الجيش المصري في العملية السياسية!!
 
ولم تؤد العلمانية القهرية في العالم العربي والإسلامي إلى انشطار الذات الثقافية فحسب، لكنها كانت أيضا البوابة الواسعة التي دخلت منها التبعية السياسية والاستراتيجية. وقد لاحظ صمويل هنتنغتون ارتباط العلمانية والتبعية في الحالة التركية. وأوضح أن أهم حاجز بين تركيا والتحول إلى "دولة المركز" التي تقود العالم الإسلامي هو الشطط الأديولوجي العلماني الذي فُرض على شعبها، وما ترتب عليه من التبعية للغرب، بينما تدعوها مكانتها وتاريخها وثقافتها إلى أن تكون رأسا في العالم الإسلامي، لا ذنَباً في الغرب.
 
ولاحظ صمويل هنتيغتون أن قيود العلمانية والتبعية المفروضة على تركيا بدأت تتآكل، ويرجع الفضل في ذلك إلى الصحوة الإسلامية في تركيا، وتصاعد حضور الإسلام في الشأن العام التركي في العقود الأخيرة، لأن الديمقراطية في تركيا أدت إلى "الرجوع إلى الأصول وإلى الدين" كما أدرك هنتيغتون بدقة (هنتيغتون، صدام الحضارات، 241)، ولذلك فإن "الانبعاث الإسلامي غيَّر شخصية السياسة التركية" (صدام الحضارات، 241).
 
 وتنبأ هنتينغتون في كتابه هذا المنشور منذ ثمانية عشر عاما أن تركيا ستتحرر من قيود العلمانية والتبعية المفتعلة المفروضة عليها نهائيا، حين تستكمل اكتشاف ذاتها، وتعيد تعريف نفسها، فكتب: "ماذا لو أعادت لو أعادت تركيا تعريف نفسها؟ عند نقطة ما يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلي عن دورها المُحبِط والمُهين كمتسوِّل يستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورها التاريخي الأكثر تأثيرا ورُقياًّ كمُحاور رئيسي باسم الإسلام وخصم للغرب." (صدام الحضارات، 291). وهذا ما بدأ بالضبط على مدى الخمسة عشر عاما المنصرمة، التي حكمت فيها القوى السياسية الإسلامية تركيا. صحيح أن المسار لا يزال في بداياته، لكنه يعبر عن وجهة تاريخية واضحة، تستعيد فيها تركيا أصالتها الإسلامية، وثقتها في ذاتها، ومكانتها العالمية.
 
 وكلما تحررت تركيا من القهر الداخلي الذي كانت تمارسه الدولة العميقة، والتبعية التي كانت مفروضة عليها من الغرب، ستسير في هذا الاتجاه بوتيرة أسرع وأكثر ثباتا. وما حديث رئيس البرلمان التركي منذ شهور عن إمكان حذف العلمانية من الدستور التركي مستقبلا، وتفسير أردوغان للعلمانية الواردة في الدستور التركي تفسيرا إسلاميا في مقابلته الأخيرة مع قناة "الجزيرة"، سوى إشارات إلى الوجهة التركية في الزمن الآتي. لقد انهزمت العلمانية التركية على يد الديمقراطية، لأن الشعب في تركيا هو وليُّ الأمر، والحاكم يسمع له ويطيع. أما في الدول العربية فالحاكم خارجٌ على الأمة، وهو يتهمها أنها شرذمة من الخوارج! وقد كان الاستبداد والعلمانية -ولا يزالان- حليفان في العالم العربي.
 
 ليس العرب بحاجة إلى السير في المسارات المتعرجة التي سلكتها تركيا، والآلام التي عانت منها قبل أن تستأنف العودة إلى ذاتها، واستعادة هويتها الإسلامية. فالشعوب العربية لم تنهزم في معركة الهوية قط، ولم تتخلَّ عن هويتها الإسلامية أصلا، رغم كل المصائب التي عانت منها على أيدي حكامها المستبدين، خصوصا المأدلجين منهم من القوميين الاشتراكيين الذين لجأو إلى الهندسة الاجتماعية القهرية لسلخ المجتمعات العربية من  عقيدتها الإسلامية. فما يحتاجه العرب اليوم هو تفعيل قيم الإسلام السياسية التي لا تزال -وستظل- راسخة في ثقافتهم.
 
وحينما بدأ الربيع العربي، كان الإسلاميون أعظم رافعة للثورات العربية ضد الاستبداد، وكان العلمانيون أعظم رافعة للثورات المضادة. ولم تستهدف الثورة المضادة وظهيرُها الدولي القوى الإسلامية الديمقراطية عبثاً، بل فعلا ذلك وهما يدركان أن هذه القوى الإسلامية هي العمود الفقري والحاضنة الأخلاقية والاجتماعية للثورات على الظلم والاستبداد. وكان من المفارقات أن  نرى علمانيين عربا في الأعوام الأخيرة يدعون إلى إقامة دول "مدنية" ديمقراطية، وهم يدعمون دولا "عسكرية" فاشية، مثل دولتيْ السيسي والأسد!  وهذا ما قادنا إلى المشهد الدرامي الذي نعيشه اليوم، حيث يفقد الإسلاميون كل يوم مزيداً من دماء شهدائهم، ويفقد العلمانيون كل يوم مزيدا من ماء وجوههم.
 
إن القوى السياسية الراشدة تركز على حكم القانون أكثر مما تركز على مصدر القانون، ويهمها "كيف" يُحكم البلد، أكثر مما يهمها "من" يحكم البلد. ومعيار ديمقراطية أية قوة سياسية هو قبولها بالخسارة في الانتخاب، وقد سقط العلمانيون العرب في هذا الامتحان سقوطا مُريعا. فأسوأ تناقض منطقي وأخلاقي وقع فيه العلمانيون العرب هو الدعوة إلى الديمقراطية ورفض نتائجها. والسبب هو أنهم لا يزالون يعتبرون الإسلاميين مواطنين من الدرجة الثانية، ويرون الشعوبَ أطفالا محجورا عليهم. وأكثر العلمانيين العرب ديمقراطية هو الذي يقبل بوجود الإسلاميين في الفضاء العام محكومين لا حكاما. أما الأقل ديمقراطية فيريد استئصالهم بالقوة.
 
وهكذا دفعت الأنانية السياسية العلمانيين العرب إلى الإصرار على حرمان الإسلاميين من الحكم، ولو بحرمان الشعب كله من الحرية! فهم يكرهون الإسلاميين أكثر مما يحبون الحرية، ويدافعون عن حقوق الأقليات مع هدر حقوق الأكثريات، ويتنكَّرون لقيم الإسلام الإلهية، دون أن يتبنَّوا قيم الغرب الإنسانية، فهم "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء." وهذه المفارقات في مواقف العلمانيين العرب وثقافتهم السياسية سبب أساسي من أسباب تعثر الربيع العربي.
 
إن السياسة جزءٌ أصيل من منظومة الإسلام الاعتقادية والأخلاقية والقانونية، والقيم السياسية الإسلامية ثرية وقادرة على تزويد المسلمين -بل وكافة البشر- بالإلهام الكافي لبناء أعدل الأنظمة السياسة وأنبلها. كما أن شؤون السياسة والحكم -مهما تضمنته من غايات المصالح الدنيوية الظرفية- لها في الإسلام معنىً تعبُّدي لا يتحقق إلا في ظل التزام الدولة بمرجعية الوحي. فقضية "الرد إلى الله والرسول" -بمعناها المرجعي- هي أهم فارق بين النظام الإسلامي والنظام العلماني اليوم، وهي مربط الفرس في الصراع اليوم بين القوى السياسية الإسلامية الساعية إلى ربط الفضاء العام بمرجعية الإسلام، والقوى السياسية العلمانية الداعية إلى اعتماد مرجعية بشرية مُنبتَّة عن هدْي السماء. وأقصد بالعلمانيين هنا تلك الأقلية منهم المؤمنة بالكرامة الإنسانية والعدالة السياسية. أما غالبية العلمانيين العرب الداعمين للاستبداد فليس لديهم مرجعية أخلاقية أصلاً، لا إسلامية ولا إنسانية.
 
تبدو لي مشكلة العلمانيين العرب  في أنهم لم يفهموا ما أدركه العبقري ابن خلدون من أن المفتاح السياسي للشخصية العربية هو الدين، فكتب: "العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة." (مقدمة ابن خلدون، 189). فالعلمانيون لا يرون سبيلا لبناء أمجاد للعرب إلا بهدم الإسلام في قلوبهم، لكأنها نسوا أننا قوم أعزنا الله بالإسلام. وهم لا يجدون خيارا للمسلمين اليوم إلا في  تغيير ثقافي وقيمي يسلخهم من ذواتهم، أو البقاء في حمأة التخلف والقهر السياسي. وهذا هو مقتضى رؤية وائل حلاق العدمية ودولته المستحيلة التي ألزم المسلمين فيها "أن يختاروا بين حداثة بلا أخلاق أو أخلاق بلا حداثة" حسب الخلاصة المعبرة التي أوجز فيها أبو يعرب المرزوقي نظرية حلاق.
 
ولعل ثلاثية ابن خلدون عن المُلْك الطبيعي والمُلْك السياسي والخلافة تعين على توضيح مكانة العلمانيين العرب الداعمين للاستبداد في سلَّم القيم السياسية. لقد ميَّز ابن خلدون بين ثلاثة أنماط من النظم السياسية، وهي: المُلْك الطبيعي، والمُلْك السياسي، والخلافة. فتوصل إلى أن "الملْك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة. و[الملْك] السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة." (ابن خلدون، المقدمة، 239.)
 
ويؤيد استقراء القيم السياسية من النص الإسلامي ما ذهب إليه ابن خلدون من تقسيم ثلاثي. فأعلى أنماط الحكم السياسي في الإسلام مَرْتبة هو دولة الشرع والعدالة الإلهية، وهي تتأسس على التعاقد والتراضي في بنائها، وتلتزم بالمرجعية الأخلاقية والتشريعية الإسلامية، فهي تجمع بين الشورية والمرجعية الإسلامية. وهذه هي الدولة الإسلامية المعيارية، المنسجمة مع القيم السياسية الإسلامية، لأنها ملتزمة بـ"مقتضى النظر الشرعي" وجامعة بين "المصالح الأخروية والدنيوية" حسب تعبير ابن خلدون.
 
وأوسط الأنظمة السياسية مَرْتبة من منظور إسلامي، هي دولة العقل والعدالة البشرية التي لا تهتدي بهداية سماوية، لكنها تَجْهد في تحقيق العدل والصالح العام طبقا لمقتضيات العقل والتجربة والإنصاف الإنساني. وينطبق هذا التعريف -في السياق المعاصر- على كل الدول الديمقراطية التي تتأسس على التراضي والتعاقد، لكنها لا تلتزم بالمرجعية الإسلامية، وهذا النمط من الدول منسجم مع قيم الإسلام السياسية في بنائه لا في مرجعيته.
 
وأدنى الأنظمة السياسية مَرْتبة من المنظور الإسلامي هو مرتبة دولة الهوى، أو "الغرض والشهوة" بلغة ابن خلدون. فهي دولة تتأسس على القهر والجبْر في بنائها، ولا تلتزم بمرجعية قانونية، لا إسلامية ولا غير إسلامية. ويدخل تحت هذا الصنف كل دول الطغيان والاستبداد. ودولة الهوى تناقض قيم الإسلامية السياسية -بناء وأداء- في كل شيء، حتى وإن كانت غالبية سكانها مسلمين.
 
يبدو لي أن أمام العلمانيين العرب اليوم ثلاثة خيارات: إما أن يُفيقوا من غفَلاتهم ويفهموا أن الدين الإسلامي هو مفتاح الشخصية العربية، وأن الدولة العلمانية القائمة على التراضي والاختيار مستحيلة في المجتمعات العربية، فينسلخوا من الأديولوجيا العلمانية ويقبلوا "دولة الشرع"، أي الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الأخلاقية والتشريعية الإسلامية. وإما أن يتَّسموا بشيء من الروح الإنسانية وإنصاف الخصوم فيقبلوا "دولة العقل" الديمقراطية التي تسَع الإسلامي والعلماني، وليست لها مرجعية إسلامية أو علمانية محددة سلفاً إلا ما يقرره شعبها. وإما أن يستمروا في غيِّهم خدماً وحشماً في ركاب الاستبداد و"دولة الهوى" الجائرة نكاية في خصومهم السياسيين من الإسلاميين.. حتى تجرفهم رياح التغيير العاتية.
 
لقد آن الأوان للإنسان العربي أن يتحرر من "حداثة" القشور التي تتبناها نخب علمانية منبتَّة من عمقها الاجتماعي. فقد كشفت حادثة (البوعزيزي) التي أشعلت الربيع العربي عن هشاشة تلك الحداثة الزائفة وما تشتمل عليه من مفارقات. فالعلمانية الحداثية الزائفة في تونس التي تفتخر بأنها ساوت بين المرأة والرجل، وفتحت أمام المرأة المساواة في الشغل -بما في ذلك العمل في سلك الشرطة- لم تحقق الحد الأدنى من الحداثة السياسية الحقة، وهو إلزام الشرطة بالعمل ضمن القانون، وتقييد يدها الباطشة، ومنعها من امتهان كرامة الإنسان التونسي. فكانت صفعة من شرطية أنثى على وجه البوعزيزي - أبلغ تعبير عن تلك المفارقة، وكان إحراق البوعزيزي نفسَه تحت ضغط الكرامة الجريحة هو الشرارة المضيئة التي فضحت تلك العلمانية القهرية الزائفة، السائدة في العالم العربي.
 
وفي ختام هذه الحلقات عن "الدولة العلمانية المستحيلة" -التي نأمل أن يتيسر تعميقها في عمل موسَّع مستقبلا- يبدو لي أن الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري كان أحسن الكتَّاب العرب بصيرة في هذا المضمار إذ كتب يقول: "مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيَّفة... وفي رأيي أنه يجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي، وتعويضه بشعاريْ الديمقراطية والعقلانية."  (الجابري، "الإسلام ليس كنيسة،" ضمن كتاب: "حوار المشرق والمغرب"، 39). وما أعظمها من نصيحة! فلو أخذت بها النخب السياسية في البلدان العربية لوفَّرت على ذاتها الكثير من الصراعات واستنزاف الذات، ولسهَّلت على نفسها بناء الإجماع الأخلاقي الضروري لأي حكم سياسي عادل، بعيداً عن الحراب والاستقطاب.