الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أميركا.. سلوك قوّة قلقة

أميركا.. سلوك قوّة قلقة

16.08.2018
علي حسين باكير


العرب
الاربعاء 15/8/2018
يعاني السلوك الأميركي على مستوى الشؤون الدولية من تخبّط غير مسبوق يشي بتسارع الخطى باتجاه حصول تحولات جذرية مستقبلاً في خارطة القوى والتحالفات الدولية. تتضمن بعض النماذج على هذا السلوك الانسحاب من اتفاقيات دولية، والانسحاب من منظمات وهيئات تابعة لمنظمات دولية، وفرض قيود على حرّية التجارة، وفرض إجراءات حمائية، وفرض سلسلة عقوبات على قائمة متزايدة من الدول، بما في ذلك على بعض حلفائها. لا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، فواشنطن على شفير إطلاق حروب اقتصادية حول العالم، والإدارة الأميركية تشكك بشكل مستمر في جدوى حلف الناتو، وتخلط مؤخراً بشكل غير مسبوق بين حلفائها وشركائها ومنافسيها وأعدائها!
تعتبر هذه الخطوات مناقضة لما من المفترض أن تمثله الدولة الأقوى في العالم، على الأقل لناحية القيم والرسالة التي ظلّت الانتلجنسيا الأميركية تتبجّح بها لعقود طويلة. وفي حين ينسب البعض هذا النوع من السلوك غير السوي وغير المتوازن إلى شخص الرئيس الأميركي ترمب، إلا أن مشكلة واشنطن الحقيقية تبدو أعمق من ذلك بكثير. هذه القرارات والسياسيات هي –على الأرجح- تعبير عن أزمة التراجع الأميركي العالمي، وليس العكس. وبهذا المعنى، فإن وصول ترمب إلى سدّة الرئاسة ما هو إلا أحد التجلّيات الداخلية لهذا التراجع العالمي.
غالباً ما يؤدي تحوّل القوّة في النظام الدولي إلى صدام، لا سيما بين القوّة المتراجعة والقوة الصاعدة. وإن لم نصل اليوم بعد إلى هذه النقطة، إلا أنّنا نستطيع أن نرى مؤشرات التوتّر الأميركي في الوقت الذي ترفض فيه واشنطن بشكل متزايد الخضوع لقواعد النظام الدولي الذي أنشأته، لا لشيء إلا لأنه لم يعد يضمن لها تحقيق مصالحها بأبخس الأثمان كما كان سابقاً.
لا يمكن لأحد أن يجادل بأن واشنطن لا تزال القوة الأقوى في العالم حتى اليوم، لكن ما يجري هو أن مسار تراجعها يزداد سرعة في الوقت الذي تزداد فيه سرعة صعود بعض القوى المنافسة لها على الصعيد الدولي. وبالرغم من أن الولايات المتّحدة لا تزال تمتلك أحدث الأسلحة والتقنيات على المستوى العسكري، إلا أن قدرتها على استخدام قوتها لتحقيق أهداف سياسية أو لإعادة بنا الأمم هي في أدنى مستوياتها منذ حوالي عقدين من الزمان. أمّا على الصعيد الاقتصادي، فإن الاقتصاد الصيني يتابع إغلاق الفجوة القائمة بينه وبين نظيره الأميركي بشكل أسرع من المتوقع.
هذه التطورات المتراكمة منذ سنوات تجعل من الولايات المتّحدة قوّة قلقة، ينعكس هذا القلق على سلوكها وسلوك مسؤوليها. هذه الحالة في تفاقم مستمر منذ عام ٢٠٠١ تقريباً، وبغض النظر عن شعارات الرؤساء الأميركيين المتعاقبين منذ تلك الفترة، إلا أن كلاً منهم ساهم ويساهم في التعبير عن مسار التراجع هذا بطريقته الخاصة.
في منطقة الشرق الأوسط على سبيل المثال، حيث المشاعر المناهضة للولايات المتّحدة في المنطقة في ارتفاع دائم، يحظى الروس منذ عام ٢٠١٥ بدور سياسي وعسكري وجيوبوليتكي متزايد. لا يعود ذلك إلى اكتساب روسيا المزيد من القوّة العسكرية والاقتصادية مؤخراً، بقدر ما يعود إلى التراجع الأميركي في المنطقة، والسياسات الأميركية السيّئة التي غالباً ما تفيد الخصوم وتأتي على حساب الحلفاء. الأزمة الخليجية التي اندلعت قبل عام ونيّف خير مثال على ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعركة التي تقودها واشنطن ضد تركيا حالياً، والتي قد تؤدي إلى تحوّلات جيوبوليتيكة خطيرة. فكما سبق لواشنطن أن خسرت إيران، هي أقرب اليوم من أي وقت مضى لأن تخسر تركيا أيضاً.;