الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أبناؤنا في العالم أبناؤنا في سوريا 

أبناؤنا في العالم أبناؤنا في سوريا 

11.11.2020
محمد برو



سوريا تي في 
الثلاثاء 10/11/2020 
كما تقهر قطرة الماء الرقيقة صلابة الصخر، فتنبجس من خلاله رغم ضعفها الشديد، فإن السجين غالباً ما كان يقهر سجانيه الذين ينسجون حوله ألف سورٍ وسور، يبعده عن أي معنى من معاني الإنسانية، ويحرمه من أبسط متطلبات الحياة، ربما تكون هذه إحدى الآليات التي يستطيع عبرها السجان التصالح مع نفسه ليبرر حجم الإجرام الذي يرتكبه تجاه ضحيته. 
بالأمس القريب كنّا في سجن صيدنايا العسكري، وقد منعت عنا جميع الحقوق المفترضة للسجين، وأهمها حق زيارة الأهل له، خاصةً لمن أمضوا سنوات الحكم وباتوا في وضع الاحتجاز التعسفي، الذي لا يبرره أي قانون سوى قانون الأحكام العرفية، الذي حكم البلاد فور تسلم آل الأسد للحكم، وما زال سارياً إلى يومنا هذا. 
لم يكن ليدور في خلد الأمن السوري، أن حفنة من السجناء المحتجزين، على بعد بضعة كيلو مترات من العاصمة دمشق، قادرون على أن يوظفوا برنامجاً إذاعياً لخدمتهم، فيوصل لهم أخبار الأهل التي انقطعت زهاء عشر سنين أو أكثر. 
بالطبع لم يكن لهذا الإنجاز الخطير أن يبصر النور، لولا تعاون كبير ومخاطرة حقيقة من الأصدقاء اليساريين، الذين كانوا يحظون بزيارات شهرية، فقد كانوا يقومون بمجازفة كبيرة، إذ يمرر واحدهم إلى أهله اسم السجين وعنوان أهله، وفي أي مدينةٍ سوريةٍ هم، ورقم هاتفهم إن وجد، خلال زيارةٍ لا تتعدى عشرين دقيقة، تخضع لرقابةٍ صارمةٍ من أعين وآذان الحرس، وكان عليه أن يلقنهم ويتأكد من مدى حفظهم للمعلومات، التي تحوي إضافة لما سبق الاسم الافتراضي الذي ستتحدث عبره الأم أو الزوجة المتصلة، والاسم الافتراضي للسجين المخاطب. 
وفي كثير من الأحيان سيكون على أهل السجين حاملي الرسالة، السفر من حمص إلى حلب أو دمشق للبحث عن هذا العنوان المقصود. 
بعدها سننتظر رداً في الزيارة التالية، يؤكد أن المعلومات قد وصلت لمتلقيها الصحيح، أو أن الأهل عجزوا عن العثور على هدفهم، فربما توفي من قصدوه وتفرقت العائلة، وربما غيروا عنوان سكنهم، وربما تنكروا من الخوف فلم يقبلوا استلام الرسالة. 
بعدها ستبدأ الأسرة المتلقية رحلة الاتصال ببرنامج "أبناؤنا في العالم" الذي بقيت تقدمه المذيعة "أمل دكاك" لسنوات طويلة في إذاعة دمشق، رحلة الاتصال هذه في نهاية ثمانينات القرن المنصرم، تشبه رحلة البحث عن إبرةٍ في كومة قش، فالاتصالات عسيرةٌ، هذا إذا افترضنا أن عائلة السجين تملك خطاً هاتفيا أصلاً، وهذا أمرٌ قليل الشيوع في تلك الآونة، وإذا حالفهم الحظ بعد عشرات المحاولات، سيكون عليهم الصبر للحصول على موعدٍ لتسجيل رسالتهم، والذي قد يحصل بعد شهرٍ أو أكثر، وبعد تسجيل المقطع الصوتي عبر الهاتف سيأخذ طريقه للمونتاج والمعالجة، ومن ثَمَّ ادراجه في حلقة من حلقات برنامجنا "أبناؤنا في العالم". 
فور وصول الخبر المؤكد بأن الأهل تسلموا الرسالة وسيعملون على الاتصال بالبرنامج، سينتشر خبر هذا الوصول من السجين المحظوظ، وسيخبر جميع أصدقائه وهم جميع السجناء معه في هذا الجناح، والبالغ عددهم أربعمئة سجين تقريبا، وسيحفظ الجميع أنَّ "رامي" سيكون اسمه الحركي بالرسالة المنتظر "نبيل" وأن اسم أمه المتحدثة سيكون "نائلة الجندي" على سبيل المثال، ومع علمنا جميعاً أن الأمر سيحتاج لشهرين كحدٍ أدنى، لتجد الرسالة المنتظرة سبيلها إلى أسماعنا، إلا أننا ومنذ الأسبوع الأول سننتظرها بصبرٍ نافذٍ، تعقبه في كل أسبوع حسرة الفوت. 
بعد أسابيع طويلة ستستهل أمل دكاك برنامجها بمقدمةٍ وجدانيةٍ تتحدث عن شوق الغائبين ولوعة المنتظرين، الذين مضى على فراقهم أشهر وأسابيع، غير مدركة أنَّ على الطرف الآخر للأثير هناك من مضى على غيابهم ما يزيد عن عشر سنوات، دون أن يتنسموا خبراً واحداً يقول أنَّ ذويه باقون على قيد الحياة. 
ستغني فيروز بين فقرات البرنامج "يا طير يا طاير على أطراف الدني.. لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير". 
وستتحدث إحداهن إلى ولدها الدارس في كندا، وسيضج الجناح في السجن باسم ولدها الذي طالما انتظر هذه اللحظة، ستحدثه عن شوقها وتفصل بين كل جملة وأخرى شهقة بكاء تنبئ عن شوقٍ جاوز حدود الصبر، وستخبره عن زواج شقيقته الصغرى وإنجابها ثلاثة أبناء، وأنها منذ خمس سنوات نسجت له كنزة من الصوف ولم تجد سبيلا لإرسالها، وأنها أرسلتها أخيراً، ليفهم أن هديته ستصل في الزيارة التالية للصديق الذي أوصل رسالته، وربما تكون وصلت قبل إذاعة البرنامج. 
بعد انتهاء البرنامج الإذاعي في الساعة الثانية 
سيصمت الأمن عن تمرير هذه الرسائل الإنسانية، بين أم وولدها أو زوجة وزوجها، طالما أنها لا تتحدث إلا عن الشوق والحنين 
من ليلة السبت، ستسيل رسائل وعبارات التهنئة، لمن وصلته رسالة أهله في هذه الليلة السعيدة، فوصلت من أنبائهم ما انقطع منذ عشر سنين، وسيكون صاحبنا غارقاً في دموعه وتحليلاته التي ستستمر لأيام، فالمتحدثة لم تذكر والده، الأمر الذي يوحي أنه قد فارق الحياة، أو لحق به في سجنٍ آخر. 
بمرور الأيام سيعرف الأمن بطريقةٍ أو أخرى أنَّ هذه الرسائل الإذاعية ليست كما تبدو في ظاهر الأمر، فكيف لأم أن تخبر ولدها بكندا عن وقائع عشر سنوات مضين، إذا انقطع الاتصال الهاتفي لا تنقطع الرسائل البريدية، وهكذا بالإصغاء البسيط لمضامين الرسائل، وحجم الحنين الفجائعي، سيعرف أبسط المستمعين أنَّ هذه الرسائل ليست من أمٍ إلى ولدها المسافر، إنها رسائل مترعة بالقهر ولوعة الحرمان، وفرحة اللقيا بعد اليأس. 
سيصمت الأمن عن تمرير هذه الرسائل الإنسانية، بين أم وولدها أو زوجة وزوجها، طالما أنها لا تتحدث إلا عن الشوق والحنين. 
"أبناؤنا في العالم" اسم طالما أحبه سجناء صيدنايا "1988-2000" وطالما تندّروا بطرافة ما يصلهم عبره من أخبار، لكنه في جانبه الأهم كان يقول لنا دائماً أنَّ السجين أقوى من السجان وأن قطرة الماء أقوى من صلابة الصخر.