الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أبعد من دوما

أبعد من دوما

10.04.2018
معن البياري


العربي الجديد
الاثنين 9/4/2018
استجاب نظام بشار الأسد في سورية لمطلب ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، أن يكون قويا، فتوسّل الكيمياء سبيلا في ذلك، عن خبرةٍ سابقةٍ في إحداث الترويع الدالّ على هذه القوة، ولكن، على ناسٍ آمنين. وفي هذا، يُحافظ على مواظبته المعهودة في الحرب التي يشنّها على الشعب السوري، منذ سبع سنوات، مطمئنا تماما للمألوف الذي اعتاد عليه، أي الثرثرة اللفظية التي تمارسها بعض الوقت وزارات الخارجية في واشنطن وباريس ولندن وغيرها، في إدانة جريمة الإبادة، ثم يجري العبور إلى مستجدّاتٍ أخرى، إلى أن تطرأ جريمةٌ تاليةٌ من اللون نفسه، يُردُّ عليها بثرثراتٍ مثيلة، ومن المعجم نفسه، وهكذا دواليك.. لم ترم قوات الأسد الغازات السامّة، الكلور وغيره، على من لاذوا بالأقبية من الصواريخ الروسية، المحمّلة بقنابل عنقودية، كما ذكرت أخبارٌ غير مغرضة، إلا لأن المستوى السياسي الحاكم في دمشق على ثقةٍ فادحةٍ بأن هذا مرخّصٌ له، إذ لم يُعاقَب بغير تعليقاتِنا، نحن الكتاب والصحافيين والمتحدثين في الفضائيات، غاضبين ومندّدين بصمت المجتمع الدولي، وغير ذلك من كلامنا التقليدي برطانته إياها
لم يقتل جيش الأسد نحو مئتين من أهل دوما، ويخنق مئاتٍ آخرين، بغازي الكلور والسارين وغيرهما، ثم يستأنف رمي البراميل المتفجرة والصواريخ، فقط لأن "جيش الإسلام" يرفض صيغةً مطروحةً لرحيل عناصر منه عن المنطقة، ولأن سلطة الفتك الحاكمة، وحليفيها الإيراني والروسي، يريدون إنجازا ميدانيا محدّدا على الأرض، بل إلى الأمرين ليعرف السوريون، في كل مطرح، في الداخل والخارج، ومعهم كل العالم، أن عدو هذه السلطة ليس من يناهضها أو يقاومها فحسب، وإنما أيضا من لا يلهج بنعمة العيش في فيئها وظلها. ليس مطلوبا فقط من السوري أن يعرف مصلحته، فلا يزاول ثورةً أو احتجاجا على النظام أو تبرّما منه، وإنما أن يصبح مولعا بالأسد، وأن يُشهر ولعه هذا، وأن ينطق محيّاه بالحبور الذي يغشاه، تعبيرا عن فائض السعادة الذي يرفلُ فيه تحت جناح آل الأسد. تدلّ فعلة النائب المنحطّ الذي قايض عبوات ماءٍ لناسٍ عطاشى في الغوطة بالهتاف بمحبّة بشار الأسد على ما ينكتب هنا. ولكن، لأن أهل الغوطة، وملايين من السوريين ليسوا مستعدّين لأن يفعلوا هذا السخف، فهم مخيّرون بأن يموتوا بالكيماوي أو بغيره، بأن يُختطفوا في الزنازين أو يهاجروا. وعندما يهاجرون، فإن سورية تكسب مجتمعا متجانسا، بحسب قول الأسد غير مرة. ولصفاءٍ أكثر لهذا المجتمع، تصير أملاك المهاجرين الغائبين في مهبّ المصادرة، اقتداءً بما فعل نظام الاحتلال الإسرائيلي العنصري في إسرائيل.
عيون الأطفال غير المحدّقة في أي شيء، الأجساد المرميّة كيفما اتفق، والرّوع المهول الذي ينطق به صمت الذين أماتهم غاز الكلور وما شابه، الليلة قبل الماضية في دوما، كما مرّت مشاهد هذا كله وغيره قدّامنا في صور عابرةٍ على غير شاشة، أي مجازٍ، في لغات الأرض كلها، في وسعه أن يقع على التعبير الأدقّ عنها، وعن فظاعة المذبحة المخيفة هاته؟ لم تنفع كل المجازات والبلاغات والاستعارات التي استُعين بها في استفظاع نوباتٍ أسديةٍ سابقة في مزاولة عقاب السوريين بالكيماوي، في جائحة الغوطة الأولى في 2013، وفي خان شيخون قبل عام، وما بينهما. وعندما لا تفعل السياسة شيئا لوقف هواية الأسد الكيماوية هذه، وعندما تختنق اللغات كلها، ولا تصيبُ ما يُشتهى أن تصل إليه في لعن فضيحة الإنسان الساطعة، الماثلة في سورية كلها، فإن حال أهل هذا البلد يصبح أصعبَ مما يُظن، وأمرَّ تعاسةً.
يحتاج شعب سورية إلى معجزةٍ ما، تنقذه من الوحوش التي تأكله. أما متى نُفاجأ بها، فذلك ما لا قِبل لأحدٍ أن يحزره.