الرئيسة \  واحة اللقاء  \   في حلب دخلنا زمناً دولياً جديداً!

 في حلب دخلنا زمناً دولياً جديداً!

26.12.2016
مرزوق الحلبي


الحياة
الاحد  25/12/2016
لغة القانون الدولي ولغة الديبلوماسية العالمية ومؤسساتها تأسست في العقود الأخيرة على تجربة الحرب العالمية الثانية وما أنتجته من مآسٍ وكوارث وكسور في الحداثة والاجتماع. فكثيرة هي المؤسسات التي صوّبت نظامها الأساس وأرست آليات عملها بناء على هذه التجربة. ومنها آليات عمل مجلس الأمن ونظامه وعضويته وآليات التدخل في الصراعات والإغاثة الإنسانية والمحاكم الجنائية الدولية للتعامل مع جرائم الحرب وتلك ضد الإنسانية.
على العموم، تعلّم العالم من التجربة وأعدّ نفسه لمنع تكرار ما حصل بخاصة لجهة منع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وغيرها من جرائم ضد الإنسانية. وقد سارت الديبلوماسية الدولية بهدي الأحكام والأعراف والقوانين التي أفرزتها حرب كانت بشعة بدرجة لم تستطع البشرية تحمّلها. ناورت بين مفهوم السيادة الوطنية والتدخّل في الشؤون الداخلية لبلد ما وبين مبدأ منع "محرقة" جديدة أو جرائم ضد الإنسانية كما عرّفتها محاكم نورنبرغ التي حاكمت المجرمين النازيين. وفي شكل عام ظلّ العالم أميناً لهذه المبادئ وإن بتفاوت من مكان إلى آخر. إلى أن جاءت الأزمة السورية وصولاً إلى نكبة حلب. يبدو لي أن حلب هي المفصل الذي انكسرت فيه الأعراف التي تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية. وحلب هنا هي الأزمة السورية الممتدة منذ 2011 والتي مهّدت لها الأزمة العراقية الممتدة منذ حرب الخليج الأولى واحتدمت منذ 2003. بمعنى، أن ما حصل في حلب كمثال وفي الشام عموماً هو ضلوع ثلاث دول على الأقلّ بجرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية من دون أن يستطيع العالم تقديم العون أو التدخّل لإنقاذ الضحايا. فكيف وصلنا إلى وضع نجد أكثر من نصف الشعب السوري (12 مليوناً) يعيش وضعية تهجير وإبعاد ناهيك بالفتك به بأسلحة محظورة، حتى أن العالم الذي نقصده على مؤسساته ومنظماته الدولية وغير الحكومية عجز، إلا في ما ندر، عن إغاثة الشعب السوري المنكوب لأن النظام في دمشق وحلفاءه رفضوا ذلك ومنعوه؟ فلا استطاع العالم توفير ممر آمن للمدنيين ولا إغاثتهم ولا استطاع فرض مناطق حظر لطيران النظام وحلفائه!
إن الثورة المدنية الشعبية في سورية شكّلت فرصة لثلاث منظومات خارجية للتدخّل على نحو أجهض طموحات الثورة وغيّر من طابعها وجوهرها. أما المنظومات الثلاث التي نقصدها فهي المنظومات الكونية والإقليمية والدينية التاريخية. قد يكون بينها نقاط التقاء وتطابق لكن كل واحدة منها على انفراد ومجتمعة شكّلت قوة طاغية في حسم وجهة الأمور في النكبة السورية وأساساً لجهة المزيد من التعقيد والتدمير كما رأينا.
تدخّلت المنظومة الكونية بقوة في سورية ضمن ما نراه من إعادة بناء لها وفق خرائط مصالح استراتيجية جديدة بين قوى لم تعد مقتنعة بجدوى النظام العالمي المؤسس على تجربة الحرب العالمية الثانية ودروسها، لا في مستوى اصطفاف القوى العالمية ولا مصالحها ولا في مستوى القوانين الدولية والأعراف والقِيَم. فروسيا التي بدت الخاسرة من سباق العولمة الذي تقوده الولايات المتحدة وشركاتها الكُبرى واتضح قصورها الاقتصادي والسياسي في أوكرانيا ودول البلطيق وجمهوريات آسيا الوسطى وشرق أوروبا كله، أرادتها فرصة لإعلان وجودها وتثبيت مصالحها هي أو مصالحها المشتركة مع الجارة من الجنوب، إيران. التقت التحولات الكُبرى في المنظومة العالمية بتحولات إقليمية وصراع إقليمي مكشوف أو مستتر غذّى الصراع في سورية وأثّر فيه نحو الاحتدام ودورة عُنف قصوى في رأسها النظام وحلفاؤه. فإذا تتبعنا الأداء الإيراني في الأزمة مثلاً، لرأينا عُمق تدخّلها في سورية. وهو تدخّل لم يسبق له مثيل ينسجم مع تطلّعها المُعلن إلى وضع قدمها على الشاطئ الشرقي للمتوسط عبر الشام وضمان تواصل جغرافي لنفوذها عبر العراق والشام قُبالة أوروبا. ويمكننا أيضاً أن نُشير إلى الدور التُركي المخاتل في الأزمة الذي تعمّق كلما رأت تركيا إمكانية لتشكّل نواة لوطن كردي في شمال سورية.
أما المنظومة الأخيرة التي تدخّلت بقوة في الأزمة السورية فهي المنظومة الدنية التاريخية وتصفية الحساب بين المذهب الشيعي والسني. لقد استطاعت إيران بنظامها وسياساتها أن تجيّش نحو 150 ألف مقاتل شيعي ضمن أكثر من ستين ميليشيا من المرتزقة أو المعبئين شيعياً وزجّتهم في المعارك الصعبة بوصفهم ضحايا لا أحد سيسأل عنهم إذا قضوا. هؤلاء شكّلوا، من دون شك، ورقة لعب مهمة في إنهاك المعارضة المسلّحة على تياراتها وصراعاتها.
هذه المنظومات المتدخّلة شكّلت في منتهاها عدواً وحشياً للشعب السوري وثورته الشعبية واحتمالات أن يؤثّر في النظام ويُلزمه بالجنوح إلى التفاوض. بمعنى أننا إذا أخذنا روسيا وإيران مثلاً لرأينا كيف كان ضغطهما قوياً في ظهر النظام كي يواصل تشغيل آلاته التدميرية في كل اتجاه. زوّده الإيرانيون بالعدّة وبالرجال عندما تخلّفت غالبية المكلّفين السوريين عن الالتحاق بالجيش واستقدم الروس إلى سورية تجربتهم في الشيشان وسياسة التدمير الشامل والأرض المحروقة من دون مراعاة لأي قانون أو عُرف. إن العالم الذي نشأ من أتون الحرب العالمية الثانية تداعى نهائياً في سورية وفي حلب تحديداً التي يتمّ تهجير أهلها من السُنة وتدمير حاضرتهم وأحيائهم كي لا يعودوا إليها في المدى المنظور. إن نشاط النظام وإيران وروسيا يُشكّل مجتمعاً ومنفرداً تنكّراً سافراً لكل ما أنتجه الاجتماع البشري في ضوء التجربة النازية وانتهاك حقوق الشعوب وإبادتها. في حلب بدأ العالم يعدّ أيامه من جديد على وقع براميل بارود وتطهير عرقي وتدمير المدن وقصف المدنيين وتهجيرهم. وقد شهدنا في الشام أبشع الجرائم ضد الإنسانية وأكثرها هولاً وترويعاً منذ الحرب العالمية الثانية  في حلب وُلدت تجربة كارثية جديدة تركت وراءها المحكمة الجنائية الدولية وقرار هيئة الأمم المتحدة الأخير من أيام قليلة الذي يقرّ بالإجماع  حق الشعوب والأفراد بالسلام! يبدو أنه قرار لا ينسحب على سورية ولا على شعبها الذي هُجّر أكثر من نصفه في الفراغ كأن العالم بمؤسساته ودوله العُظمى غير قائم! في حلب رأينا تفكّك المنظومة الدولية التي عرفناها ودخلنا زمناً جديداً!